يمتاز بخفَّةِ الظل وسلاسة الأسلوب، كما يمزج التعبير بالتهكُّم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة، والنكات اللاذعة والاقتباسات الدالة والنقد البنَّاء, ومن ذلك1:

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في شعر "كاتول" اللاتيني: "ألا تعمل خيرًا، ولا تنتظر شكرًا. فقد عمَّ الجحود وأصبح الإحسان هباء, ماذا أقول! بل أصبح ثقلًا ومصدرًا للضغينة. لقد بلوت هذه التجربة المرة حين رأيت أشد الناس حقدًا عليّ وبغضًا لي مَنْ كان يراني منذ حين مصدر نعمته وحاميه الوحيد".

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم تتغير أخلاق الناس منذ قال شاعرك اللاتيني هذا الشعر، ولكنه صاحب عاجلة لم يكن ينتظر من الآجلة شيئًا, أما نحن فقد أدبنا الله أدبًا آخر، واقرأ إن شئت قوله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .

ثم يمتاز هذا الإيجاز في العمود الصحفي عند طه حسين بما يمتاز به. "الأبيجراما" من التأنُّقِ في اختيار الألفاظ بحيث ترتفع عن الألفاظ المبتذلة, دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يَقْصِدُ إليه الشعراء الفحول في القصائد الكبرى، وإنما هو شيء بين ذلك لا يبتذل حتى يفهمه الناس جميعًا فتزهد فيه الخاصة، ولا يرتفع حتى لا يفهمه إلّا المثقفون الممتازون والذين يألفون لغة الفحول من الشعراء2.

على أن هذه السمة في العمود الصحفي عند طه حسين لا تصدُر عن نفس المصدر الذي صدرت عنه "الأبيجراما" التي نشأت في حياة ناعمة مترفة في القصور3. ذلك أنها ترتبط عند طه حسين برؤياه اللغوية في الاتصال بالجماهير من جهة، وبالظروف السياسية التي تحجب التعبير المباشر من جهة أخرى، وكان عليه أن يتَّخِذَ مواقف محددة من هذه الظروف التي أحاطت بالمجتمع المصري، فتوسَّلَ بالرمز كما تَقَدَّمَ.

كما أن العمود الصحفي عند طه حسين يمتاز بخصلة ثالثة تتصل بالمعنى، وهي أن يكون المعنى أثرًا من آثار العقل والإرادة والقلب جميعًا4، وهو يتَّفِقُ في هذه الخصلة كذلك مع "الأبيجراما" من حيث أنها ليست شعرًا عاطفيًّا يصدر عن القلب, أو يفيض به الطبع, وليس هو شعرًا يصنعه العقل وحده، وإنما هو مزاج من ذلك يسيطر الذوق عليه قبل كل شيء5. آثر العقل فيه -كما يذهب إلى ذلك طه حسين6- أنه نَقْدٌ لاذعٌ أو هجاءٌ ممض،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015