الأصول، في تعبير نثريٍّ قصير، يتفق ومقتضيات الفن الصحفي الحديث؛ فالقصر إذن خصلة مقومة لهذا الفن المقالي، على النحو الذي تقوم عليه "الأبيجراما" في شكلها الشعري، وهذا الخصلة عند طه حسين -كذلك- من عناصر الأصالة في الحياة العربية، ذلك أن "الإيجاز هو الذي غلب في بداية الحركة الإسلامية جانب العمل على جانب القول"1. وهذا الإيجاز بالقياس إلى الفن الصحفي الحديث أمر جوهري، ذلك أن العمود الصحفي لا يتَّسِعُ لأكثر من الكلام عن فكرة واحدة، أو خاطر واحد، بحكم ظروف العصر من جهة، وظروف الصحيفة من جهة أخرى, التي لا تُخَصِّصُ إلّا حيزًا صغيرًا للعمود2، الأمر الذي يقتضي الإيجاز في التعبير، وعدم الجنوح إلى الإسهاب بحالٍ ما3.

ومن أجل ذلك وجدنا العمود الصحفي في "جنة الشوك" لا يتجاوز خمسة عشر سطرًا بحدٍّ أقصى، على نحو ما تمتاز به"الأبيجراما", إلى جانب التركيز على فكرة واحدة. ومن ذلك مقال بعنوان: "حرية"4.

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: "ألم تر إلى فلان وُلِدَ حرًّا وشبَّ حرًّا، وشاخ حرًّا، فلما دنا من الهرم آثر الرقَّ فيما بقي له من الأيام على الحرية التي صحبها في أكثر العمر؟!.

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السن فلم يستطع أن يحتمل الشيخوخة والحرية معًا، وأنت تعلم أن الحرية تحمل الأحرار أعباء ثقالًا"5.

ومن ذلك يبين الإيجاز البليغ المطابق لمقتضى الحال، وتكثيف الرأي السياسي في ألفاظ قليلة، في مواجهة النظام السياسي الذي يحظر التعبير المقالي المباشر الصريح، الأمر الذي ذهب بمقاله الرمزي إلى وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقلّ منها، على نحو ما يسميه البلاغيون "إيجاز القصر"6 أو الإيجاز البلاغي الذي لا يُقَدَّرُ فيه محذوف، لأن الأقدار تتفاوت فيه، ليسهل إفلات العمود الصحفي من قلم الرقيب في فترات المحَنِ السياسية التي مرت بها مصر.

ويوظِّفُ طه حسين هذه الأغراض البلاغية في عموده الرمزي الذي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015