فن العمود الرمزي:

ويبين مما تَقَدَّمَ أن هذا الفن المقالي -عند طه حسين- فن جديد قديم، على النحو الذي يبين من "العمود الرمزي"، والذي يجعل هذه العبارة "صادقة كل الصدق, ملائمة كل الملاءمة لحقائق التاريخ الأدبي العام من جهة، ولحقائق التاريخ الأدبي العربي من جهة أخرى"1.

ذلك أن هذا الفن -كما يقول طه حسين- كغيره من فنون القول قد نشأ منظومًا لا منثورًا4، فهو من نشأته الأولى في الأدب اليوناني مذهبٌ من مذاهب الشعر ولونٌ من ألوانه، نشأ يسيرًا ضئيلًا، ثم أخذ أمره يعظُم شيئًا فشيئًا, حتى سيطر أو كاد يسيطر على الأدب اليوناني في الإسكندرية, وغيرها من الحواضر اليونانية, في العصر الذي تلا فتوح الإسكندرية. وقد نشأ كذلك في الأدب اللاتيني ضئيلًا يسيرًا، حتى إذا اتصل اللاتينيون بالأدب اليوناني عامَّةً وبالأدب الإسكندري خاصة، ترجموا ثم قلدوا ثم برعوا، حتى أصبح هذا الفن من فنون الشعر اللاتيني ممتازًا أشدَّ الامتياز وأعظمه في القرنين الأول والثاني للمسيح، أي: في العصر المجيد من عصور الإمبراطورية الرومانية4.

ويتوسَّلُ طه حسين بهذا الفن في عموده الرمزي النثري "جنة الشوك", وهو الفن الذي سماه اليونانيون واللاتينيون "أبيجراما" أي: نقشًا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقًا يسيرًا قريبًا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشًا على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى وفي معابد الآلهة وعلى التماثيل والآنية والأداة، البيت أو الأبيات من الشعر، يؤدون فيها غرضًا قريبًا أول الأمر، ثم أخذ هذا الفن يعظم ويتعقَّد أمره، حتى نأى عن الأحجار، واستطاع أن يعيش في الذاكرة, وعلى أطراف الألسنة، ثم استطاع أن يعيش على أسلات الأقلام وفي بطون الكتب والدواوين. وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة "أبيجراما" أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي كان يُنْقَشُ على الأحجار، ثم على كل شعر قصير، ثم على الشعر القصير الذي كانت تصوّر فيه عاطفة من عواطف الحب, أو نزعة من نزعات الموج، أو نزعة من نزعات الهجاء, ثم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015