ويمثِّلُ المقال العمودي هذا العنصر الأصيل، وغيره من عناصر الأصالة التي استطاعت أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور التي لا تسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية فحسب، ولكنها تسيطر على النثر العربي أيضًا, الذي اتخذ لنفسه أصولًا تقليدية تقارب أصول الشعر، فحرص على اللغة العربية، وعلى الفصاحة والجزالة، وعلى الرونق والرصانة، واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه, فتسبغ عليها "جمالًا ساذجًا لا يخلو من روعة وجلال"1.
وعلى الرغم من تمثُّل طه حسين للثقافة الأوربية القديمة والحديثة, فقد حرص في مقاله على الأصول التقليدية حرصًا شديدًا, "واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إمامًا أول الأمر, ثم نافسه وغالبه بعد ذلك"2. وإذا كنا نتجاوز الشبه الشكلي بين "عمود الشعر" و"العمود الصحفي", فإننا لا نستطيع تجاوز أصوله التقليدية التي تتمثل في: صحة الأداء، وجمال الأسلوب. ذلك أن "العمود الصحفي أشبه بالمقال الأدبي من حيث العناية باختبار الألفاظ، والاحتفاظ بحلاوة الأساليب, وفيه مجال كبير لبيان النبوغ الأدبي، أو القدرة البيانية التي يمتاز بها المحور الصحفي"3.
فالأصل في تحرير العمود الصحفي بصفة خاصة، وفن المقال في أدب طه حسين بصفة عامة، إذن، كالأصل "في العمود الشعري تخيَّر اللفظ الصحيح الرصين الجزل للمعنى الصحيح المصيب، والملاءمة بين اللفظ, واللفظ وبين المعنى, والمعنى في كل ما يكوّن هذا الانسجام الخاصِّ الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا الفصحى"4. أما جمال الأداء على أية صورة من صوره, أو "مرتبة من مراتبه -فليس شرطًا في لغة العمود, ولكنه جائز في هذه المادة الصحفية أكثر من جوازه في بقية المواد الأخرى"5. وهذا الجمال في الأداء تقتضيه طبيعة طه حسين نفسه6، وأن فنَّ القول عنده -يأتلف من الألفاظ والمعاني والأساليب, وما يعرض من صور, وما يثير من عواطف, وما يبعث من شعور7، بحيث يمكن القول أن جمال الأداء في مقاله شيء شائع لا ينحصر في اللفظ أو في المعنى أو في الأسلوب8. ذلك أن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين لا تفصل بين صورته ومادته، بين لغته ومعانيه، بين شكله ومضمونه، فنحن "لا نعرف المعاني المجردة التي تتخذ ثيابها من الألفاظ.