طريق الجاحظ, أو أسلوب الحريري والبديع الهمذاني، ولا ينبغي له أن يرهق الناس من أمرهم عسرًا؛ فيفرض عليهم الرجوع إلى المعاجم في كل سطر"1.

وإذا كان العمود الصحفي بطابعه الإنساني يستطيع أن يصل بالصحافة إلى مرتبة الأدب2؛ لأنه يتجه دائمًا إلى النفس البشرية وإلى الاهتمامات العامة3. فإن جمال الأداء فيه -عند طه حسين- لا يكون في "غرابة اللفظ وخشونته, ولا في خفاء المعنى وغموضه، ولا في التواء الأسلوب وتعقده، وإنما الجمال شيء آخر يناقض هذه الخصال كل المناقضة ويخالفها أشد الخلاف"4، ولذلك يؤدي العمود الصحفي في "هذه اللغة اليسيرة في غير ابتذال، السهلة في غير إسفاف، الرصينة في غير إغراب"5. ذلك أن الكاتب أو الأديب "إنما ينتج لأن طبيعته تقضتيه الإنتاج، ولأن البيئة من حوله تقتضيه الإنتاج أيضًا، ولأن الله قد خلق الجماعة الإنسانية وفيها طائفة من الظواهر الاجتماعية، ومن هذه الظواهر أن ينتج الكُتَّاب والأدباء, ويسمع الناس أن يقرأوا"6.

وليست هناك بيئة إنسانية، بادية أو متحضرة، متقدمة في الحضارة أو مقصرة فيها, إلا ولها لون من القول يلائم طاقة كُتَّابها للإنتاج "وطاقة أعضائها الآخرين للقراءة أو الاستماع. ومن أجل ذلك رأينا أهل البادية من العرب قبل أن يمسهم جناح من الحضارة يحفلون بما أتيح لهم في حياتهم تلك من الأدب. ويقول شاعر القبيلة، ويسمع لهم سائرها، ويحفظ كثير منهم عنه بعض ما يقول أو كل ما يقول, وقد يشيعونه من حولهم في حياتهم تلك المتنقلة, فيتجاوز شعر الشاعر قبيلته إلى قبائل أخرى, ويتفاوت شعر الشعراء في شيوع شعرهم وانتشاره، وما ينشأ عن ذلك لأصحابه من الشهرة وبُعْدِ الصَّوْتِ. وقد تغيَّرت أطوار تلك الأمة البادية، فتحضَّرت قليلًا أو كثيرًا، ولكنها لم تنس شعرها القديم من جهة، ولم تكتف به من جهة أخرى، وإنما حفظته، وأضافت إليه, وأنشأت شعرًا متحضرًا يشبه أو لا يشبه ما حفظت من شعرها القديم, ثم أغرقت في الحضارة وفرضت لغتها ودينها وأدبها على أمم أخرى، وأنشأت لونًا من الحضارة لم تألفه في عهودها الأولى, ولم تعرفه الأمم الأخرى قبل أن تخضع للسلطان الجديد. وهي في هذا الطور من حياتها لم تنس أدبها، ولم تُعْرِضْ عنه، ولم تكتف به، وإنما حفظته وأضافت إليه أيضًا"7.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015