مضمون العمود الصحفي:

وهذا المضمون في العمود الصحفي ليس شطرًا منضافًا إليه، وإنما يشكِّلُ صلبه، ومنطلقه إننا "نقول بعد أن نفكر, ونكتب بلغتنا هذه بعد أن نكتب مرات هذه الكتابة الداخلية فيما بيننا وبين أنفسنا، نكتب للناس بعد أن نكون استمعنا إلى هذا الذي نكتبه، هديرًا داخليًّا متصلًا, ونسمعه قبل نسمعه للناس, أو أن نحمله حملًا على آذانهم"1. ولأمرٍ ما قال قدماؤنا: "إن الشعر الجاهلي ديوان العرب، لأنهم لم يكادوا يعرفون شيئًا من أمر هؤلاء الجاهليين إلّا من طريق هذا الشعر2؛ فالأدب -كما يقول طه حسين3- يصور "حياة النفوس والقلوب والأذواق على نحوٍ لا يستطيع التاريخ أن يصوره، ولا أن يسجله, ولا أن ينقله إلينا نقلًا صحيحًا دقيقًا"4.

فمضمون المال عند طه حسين -إذن- يستمد من هذه الرؤيا اتجاهه إلى بيئته ومجتمعه "يهبط إليهم فيشتق منهم مادته, ويجني منهم حلوهم ومرهم، ويستخلص منهم صفوهم وكدرهم ... ثم يخلو إلى نفسه, فيخلو إليها ويستخرج نتيجة هذا كله رائقة صفوًا يعرضها على الناس في الصورة التي يحبها هو، لا في الصورة التي يحبونها هم؛ فهو يعاشرهم ويخالطهم ويمازج حياتهم ممازجة دقيقة كل الدقة، خفية كل الخفاء، عيمقة كل العمق، ثم ينفصل عنهم فيعود إلى قمته تلك التي يحبها, ولا يستطيع أن يسوغ نفسه إلا فيها ... ثم يعود إليهم بعد ذلك صورة رائقة شائقة يذوقها منهم من هُيِّأَ لذوقها، ويسيغها منهم من أعد نفسه لإساغتها"5 ونتيجة ذلك عند طه حسين أن مقاله الصحفي بأشكاله التحريرية المختلفة "متصل بالناس أشد الاتصال، يشتق نفسه من أنفسهم اشتقاقًا، ثم يعود إليهم بعد تكوينه خلقًا جديدًا, يجب أن يتهيأوا لقوله, ويعدوا أنفسهم للرضى عنه أو السخط عليه6, ويقوم هذا المضمون المقالي في عمود طه حسين على الوضوح من جهة، والاتجاه نحو المضمون نفسه من جهة أخرى.

فأما عنصر الوضوح في المضمون، فهو الذي يضمن الاتصال الصحفي الفعَّال بالجماهير، ذلك أن الكاتب -كما يقول: طه حسين- مطالبٌ بألا يكون "ممعنًا في الغرابة متعمدًا للغموض، وألا يؤدي -مضمونه- في ألفاظ وأساليب لا تعيش في هذه الأيام، وإنما كانت تعيش في العصور القديمة البعيدة العهد, فلا ينبغي لمن يكتب الآن أن يتكلَّف مذهب ابن المقفع، أو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015