ولعل في ذلك ما يكشف عن مصدر الأصالة في مقال طه حسين، واتجاهه إلى أن يضيف إلى فن القول العربي، ويحتفظ بأصوله، ويقوم فنه المقالي الجديد على أساس من الارتباط بالحياة الواقعة، الأمر الذي يبين من اتجاهه نحو مضمون مقاله، وهو الاتجاه الذي يشترك في تحديده: سياسة الصحيفة واهتمام القراء وصياغة المقال، ولكن هذا الاتجاه في العمود الصحفي يعبر عن وجهة نظر الكاتب في سطور قليلة تتيح له حرية واسعة فيما يكتب ما دام يتحمَّل مسئولية الكتابة، وما دام يذيّل العمود بتوقيعه1. الأمر الذي يميِّزُ العمود الصحفي عن غيره من فنون المقال الصحفي، بحرية التعبير عن اتجاه الكاتب نحو مضمون مقاله إلى الدرجة التي تذهب بالعمود إلى أن يكون رأيًا شخصيًّا, وتحريره ذاتيًّا, كما نجد في اختلاف رأي العمود مع سياسة الصحيفة حول موضوع معين، ولا غبار عليه في انتهاج هذه الخطة2.
والعمود الصحفي من هذه الوجهة يمتاز بما يذهب إليه "أصحاب الأصالة في الأدب"3 من أنهم كانوا "ينشئون الأدب فيما كانت طبيعة حياتهم تقتضيه من فنون القول, كانوا يتغنون الرضى إذا رضوا، ويتغنون السخط إذا سخطوا, يتغنون الحزن إن أصابهم الحزن، والسرور إن أتيح لهم السرور. كانوا يصورون ما كانوا يجدون من ألوان الحسِّ والعواطف والشعور"4. على أن كاتب العمود الصحفي في ضوء هذا الفهم -عند طه حسين- لا ينشئ مقاله "لفرد من الناس، ولا لجماعة محدودة منهم، وإنما ينشئه لبيئته التي يعيش فيها ولهذه البيئة كلها، وهو واثق بأن فنه سيُفْهَم ويُذَاق"5؛ لأنه صورة من حياة الناس تشتق منها وتعود إليها6.
على أن اتجاه الكاتب نحو مضمون مقاله، بهذا الفهم، في العمود الصحفي، يقتضي حرية يأمن معها الغوائل, ولا يتعرَّض معها لشر أو كيد أو هوان. فالكاتب الحق -عند طه حسين- حرٌّ بطبعه "لا ينتظر أن تُهْدَى إليه الحرية من أحد غيره، وإنما تولد معه حريته يوم يولد، وتنمو معه حين ينمو، وتصحبه منذ يدخل الحياة إلى أن يخرج منها. وهو لا يؤثر في الدنيا شيئًا كما يؤثر الأدب الحر, وهو يزدري أدبه أشد الازدراء, ويضيق به أعظم الضيق, إن فَقَدَ حريته في يوم من الأيام"7.
فالعمود الصحفي -إذن- عند طه حسين، موجَّه بطبعة في سبيل الحياة "بأقوم معانيها وأبقاها وأرقاها.. حياة العقول والقلوب التي لا تموت