مختلفة، تجعل تصنيفها أمرًا من الصعوبة بمكان1. على أننا يمكن أن نميِّزَ في بعض المقالات العمودية لهجة فكاهية ساخرة, كما سيجيء في "جنة الشوك"، وبعضها يتَّسِم بلهجة جادة، والبعض الآخر يصور ضعف وقوة الانفعالات الإنسانية، كما سيبجيء في "جنة الحيوان"، ويغلب التعليق والتقويم في بعضها, والطرائف والأخبار في البعض الآخر.

وإذا كانت معرفة الكاتب لقرائه وبيئته، تتيح له أن يتكلَّم بلغة الشعب من حوله في مقاله العمودي، الأمر الذي يجعل من الطبيعي في المستقبل أن يتَّجِه المؤرخون إلى دراسة الشعوب من خلال المقالات العمودية وكُتَّابها, دراسة دقيقة7 تعطي مؤشرات هامة لدراسة حركة التاريخ الاجتماعي في مكان وزمان معينين، فإن طه حسين يصدر في عموده الصحفي عن رؤيا اجتماعية واضحة تجعله يؤكد أن "ما يقال في نقد الناس وحمدهم إنما هو أشبه بالمزايا، يرى الناس فيها أنفسهم، لأننا لا ننقد عفاريت الجن، ولا نحمد الملائكة الأبرار، وإنما ننقد ونحمد ما نرى وما نعلم من أعمال الناس وآثارهم"2.

على أن هذه الرؤيا الصحفية لمضمون المقال العمودي، هي التي تحدِّدُ بناءه وشكله التحريري، ذلك أن معظم المقالات العمودية إنما تصدر في تحريرها عن نموذج, أو عدة نمماذج تحددها الرؤيا الصحفية للكاتب, والتي تسهم في تكوينها مقوماته الخاصة ومصادر ثقافته المتنوعة3. وتأسيسًا على هذا الفهم فإن دراسة تحرير المقال العمودي عند طه حسين تشير إلى أنماط تحريرية جديدة في العمود الصحفي تصدر عن رؤياه الصحفية، ومقومات شخصيته، ومصادر ثقافته التي أسهمت في تكوين هذه الرؤيا، بحيث يمكن القول في نهاية الأمر أن العمود الصحفي في مقال طه حسين ثمرة من ثمار رؤياه الصحفية، وما تمتاز به من عناصر أصيلة، ومظاهر تجديدية، ولم ينشأ تقليدًا لفن مقالي حديث.

فإذا كان قد استقرَّ عندنا أن المقال الصحفي يقوم على محورين أساسيين: المضمون الصحفي من نحو، والشكل التحريري من نحوٍ آخر، فإن التطور الذي حكم محوري الأصالة والتجديد في مقال طه حسين، واتجه بهما إلى هنا وهناك، يرتبط بوسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، من خلال توازن ذكي، إلى أبعد الحدود آفاقًا وتجديدًا، فجاء المقال عنده ثمرة التعادلية بين عناصر الأصالة والتجديد جميعًا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015