ما مر في هذه الدنيا بنو زمن ... إلا وعندي من أنبائهم طرف

"وأنا واثق كلَّ الثقة بأن كثيرًا من أبناء الزمان قد مروا في هذه الدنيا وليس عندي من أنبائهم طرف طويل أو قصير، ولكني واثق بأني عرفت الناس، وبلوت أخبارهم وآثارهم إلى حَدٍّ ما، وتأثرت بما بلوت من ذلك، فسخطت حينًا ورضيت أحيانًا، وأظهرت ما وجدت من السُّخْطِ والرضا في صراحة تغنيني عن التلميح الغامض"1.

ولعل في هذه الرؤيا العملية للواقع عند طه حسين ما يجعلنا نذهب مع كُتَّاب العمود الصحفي2، إلى أن الصحيفة ليست انعكاسًا للواقع الاجتماعي فحسب, أو تسجيلًا لهذا الواقع، ولكنها كذلك جزء من تاريخ المجتمع، تقوم بدور القيادة في القضايا المهمة، وتعرض الأخطاء وتكشفها, سواء الأخطاء التي ارتكبها الحزب السياسي الذي تؤيده الصحيفة، أو الأخطاء التي ترتكبها السلطة السياسية أو الحكومية. ذلك أن المواطنين ينشدون من صحيفتهم أن تكون جريئة في نضالها من أجل الحق3. وتَتَحَدَّدُ وظيفة المقال العمودي في ضوء هذه الرؤيا الصحفية للقضايا الاجتماعية المختلفة، حين تذهب هذه الوظيفة بالعمود الصحفي إلى اتخاذ موقف محدد من هذه القضايا، يقوم على تفسير الكاتب وتحليله لها، ورأيه الذاتي أيضًا، كما يقوم على تقويمه للواقع وحكمه الخاصٍّ الذي يتميز بالصواب في التفسير، والاستقلال في التقويم. وإذا كُنَّا نفضل المقال الموقع على غير الموقع لافتقار الأخير إلى الطابع الذاتي، فإن القراء المعاصرين يرحبون بعودة الطابع الذاتي" إلى المقال العمودي4. والطريف أن المقال العمودي لم يقترن بهذا الطابع الشخصي الباتِّ إلّا بعد فترة متأخرة من تاريخه، وبطريق الصدفة تقريبًا؛ فقد استحدثه "فرانكلين ب". أدامس, عندما أدخل في عموده "برج القيادة" مذكرات من "مفكرة بيبي" إذ أخذ يوقع العمود بالأحرف "ف. ب أ"5. ومن الطبيعي جدًّا أن تعكس المفكرة الطابع الشخصي؛ لأنها تعالج ما يراه كاتبها, وما يفعله ويحس به ويفكر فيه6.

ومن ذلك يتضح أن المقال العمودي يتناول من حيث المضمون موادًّا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015