كاتب العمود لا يختلف عن كاتب المقال الافتتاحي؛ لأنه يعرض وجهة نظر الصحيفة لا وجهة نظره هو، على أن معظم الصحف ومنها صحف كبرى في العالم تؤثر إعطاء الكاتب حرية كافية للتعبير عن رأيه الشخصي في العمود الصحفي. ولكي يكون العمود الصحفي ناجحًا ومقروءًا، ينبغي ألا يهمل عاملًا هامًّا وهو اتصال الموضوع بالقارئ، من قرب أو بعد، فإن القارئ يشعر مباشرًا أو غير مباشر1.

وتأسيسًا على هذا الفهم يمكن أن نذهب إلى أن طه حسين من أوائل الكُتَّاب الصحفيين في مصر الذين تمثَّلوا هذه الخصائص العمودية في المقال، ذلك أن العمود الصحفي -كما يقول "لونٌ من ألوان القول لم يطرقه أدباؤنا المعاصرون؛ لأنهم لم يلتفتوا إليه، أو لأنهم لم يحفَلُوا به، مع أنه من أشد فنون القول ملاءمة لهذا العصر الذي نعيش فيه, فنحن نعيش في عصر انتقال كما يقال لنا منذ أخذنا نعرف الحياة, وعصور الانتقال تمتاز بما يكثر فيها من اضطراب الرأي واختلاط الأمر وانحراف السيرة الفردية والاجتماعية عن المألوف من مناهج الحياة. وهذا كله يدفع إلى النقد، ويحمل على العناية بإصلاح الفاسد وتقويم المعوج, والدلالة على الخير ليقصد إليه، وعلى الشر ليتنكب سبيله، وإظهار ما لا يحسن في صور قوية أخاذة، عميقة الأثر في النفوس، شديد الاستهواء للذوق، عظيمة الحظ من ملاءمة الطبع"2.

ومن ذلك يبين أن المقال العمودي عند طه حسين قد نشأ في الأصل من حاجة الاتصال بالواقع والتعبير عنه، فهو لم يرد إلى شيء إلّا إلى النقد الذي بالموضوع الذي يتصل به أكثر من الموضوع العام الذي لا يتصل بحياته اتصالًا, يسمونه بريقًا في هذه الأيام، والنقد الذي يوجَّه إلى ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس. ومن المحقق أني لم أخترع هذا الكلام من لا شيء، ولم أشتق هذه الصور من الهواء، ولم ألتمسها في الصين ولا في اليابان ولا في بلاد الهند والسند، وإنما أنا أعيش في مصر، وأشارك المصريين في الحياة التي يحيونها، وآخذ بحظي مما في هذه الحياة مما يرضي وما يُسْخِطُ، وأنا بعد ذلك أعرف أقطارًا من الأرض سافرت إليها, أقمت فيها أو قرأت عنها في الكتب والأسفار, وأنا بعد هذا وذلك أعرف أجيالًا من الناس عشت بينهم, أو قرأت أخبارهم وعرفت آثارهم, فيما استطعت أن أظهر عليه من آثار الناس في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ولست أزعم كأبي العلاء أني أعرف الناس جميعًا، وأني قد بلوت أجيال الناس جميعًا، فقد كان أبو العلاء غاليًا حين قال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015