وعقولهم، مع ذلك عقول إنسانية تفهم من الأمر قليلًا وتعيا عن فهم الكثير، ولو قد فطنت عقولهم لكل ما كانت الصحف تنشر من الفصول، ولكل ما كانت المطابع تذيع من الكتب، لعطَّلوا الصحف كلها تعطيلًا، ولأغلقوا المطابع كلها إغلاقًا، وأيّ شيء أدلُّ على ذلك من هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء"1.

وفي ضوء هذه الرؤيا التي يحددها طه حسين لمواجهة الكُتَّاب المقاليين، وغير المقاليين للظروف السياسية، يمكن القول أنَّ فنَّ العمود الصحفي كان من أهم هذه الفنون الجديدة التي توسَّل بها طه حسين "حين اضطرت حكومات الطغيان الكتاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح ومن الإشارة والرمز، حتى استقلَّ هذا الأدب بنفسه, وتنافس القراء فيه تنافسًا شديدًا، وجعلوا يقرأون ويؤولون ويناقش بعضهم بعضًا في التأويل والتحليل، واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة"2.

ومن آثار فن العمود الصحفي في مقال طه حسين، هذا الفن الجديد الذي اتخذ اسم "جنة الشوك"، وكان ينشره على شكل عمود في صحيفة "الأهرام" في الأربعينيات، ثم جمعت مقالاته في كِتَاب نُشِرَ لأول مرة عام 1945 3.

واتخذ من هذا العمود الصحفي، اسمًا لعموده في جريدة "الجمهورية" في الستينيات.

وفي هذا العمود الصحفي الذي يتوسَّل بالرمز، نجد ارتباط صحافة طه حسين بالظروف الاجتماعية والسياسية، التي ذهبت به -كما يقول- إلى التعبير عن "مظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود، فكنَّا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والألغاز على التصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها، وكانت حكومة ذلك العهد ورقابتها تقرأ فلا تفهم، فتخلي بين الكُتَّاب وما يكتبون"4. وكذلك قهر هذا الفن المقال الجديد "بغي البغاء، وأفلت من رقابة الرقباء.

وسجَّل على الظالمين ظلمهم، وعلى المفسدين إفسادهم، وأنشأ بينه وبين القراء لغة جديدة يفهمها الأدباء وقراؤهم، وفنًّا جديدًا يذوقه القراء ويحبونه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015