يكتب ليقرأة الناس, والناس لا يقرأونه إلّا إذا نُشِرَ كتابه أو مقاله، والكُتَّاب والمقال لا ينشران حين يتحَكَّم في نشرهما الرقيب, والرقيب يحظر على الناس أن ينشروا كتبهم وفصولهم حين تخوض هذه الكتب والفصول فيما لا تُحِبُّ الحكومة أن تخوض فيه"1.
وهكذا خضعت الصحافة في مصر لمثل الظروف التي تخضع لها الصحافة في غيرها من الأقطار الأخرى, وأصبحت مضَّطرةً إلى استحداث فنون تحريرية جديدة تواجه المصادرة التي فُرِضَت على الصحف والكتب، حين كانت تريد "أن تبصِّرَ المصريين بحقائق أمورهم وشئونهم، ونظرت مصر التي كانت ترى أنها ملجأ الحرية في الشرق الأدنى، وأنها قائدة الشعوب العربية إلى الكرامة والعزة والاستقلال، وأنها آمنت بغي الدولة التركية القديمة وطغيانها أحرار سوريا ولبنان والعراق"2، نظرت مصر فإذا كِتَابٌ قد كتبه أحد أبنائها يُحَالُ بينه وبين المواطنين, وإذا به يُنْشَر "المعذبون في الرض" في لبنان، و"يُذاع في أقطار البلاد العربية، ثم يعود إلى مصر فيدخلها خائفًا يترقَّبُ, ويستخفي به قراءه استخفاء، ثم يُعاد طبعه ونَشْرَه في لبنان، والقراء من المصريين يسمعون بذلك فينكرون فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا بهذا النكير"3. كانت مصر إذن -كما يقول طه حسين- قد عادت إلى: "مثل ما كانت عليه فرنسا أثناء القرن السابع عشر, حين كان بعض كُتَّابِهَا يفرون بكتبهم لينشروها في هولنده مخافة البأس والبطش وطغيان الرقيب"4, ومصدر ذلك عند الحكومة هو "الخوف الذي يورِّطُ في البغي، وهو الذعر الذي يدفع إلى الطغيان، وهو التنكيل بالكاتب من طريق التنكيل بكتابه، وهو الاستجابة للهوى, والانقياد للشهوة, والحكم في الناس بالحب والبغض لا بالحق والعدل, ولست أعرف أشد حمقًا ولا أجهل جهلًا ولا أغبى غباء من الذين يصدرون في حكمهم عن الخوف والذعر، وعن الشهوة والهوى، وعن الحب والبغض، فهم يورِّطُون أنفسهم في ألوان من السُّخْفِ لا تكاد تنقضي، يحسبون أن قدرتهم تبلغ كل شيء، مع أنها قدرة إنسانية محدودة, لها مدى لا تستطيع أن تتجاوزه، فهي تصادر كتابًا في مصر, وتظن أنها حالت بينه وبين المصريين، ثم لا تلبث أن تراه قد نشر في لبنان, وعاد إلى مصر فقرأه الناس فيها، وانتقض عليها كل ما أبرمت، وفسد عليها كل ما دبرت، واستبق الناس إلى هذا الكتاب, وتنافسوا في الظُّفْرِ به, ولو قد خلَّّت الحكومة بينهم وبينه لكان منهم القارئ له والمعرض عنه, ويحسبون أنهم يفهمون كل شيء، وأن عقولهم تنفذ إلى ما لا تنفذ إليه عقول غيرهم من الناس،