ويؤثرونه على فنون التصريح والوضوح. والأدب أشبه شيء بالنهر العظيم القوي الذي يندفع من ينابيعه فيشق مجراه حتى يصل إلى البحر، قاهرًا ما يلقاه من المصاعب, مقتحمًا ما يعترضه من العقاب، محتالًا في شق طريقه ألوانًا من الحيل تنتهي به كلها إلى غايته، فظلم الظالمين وبطش أصحاب الطغيان وتحكُّم الرقباء كل أولئك أضعف من أن يقوم في سبيل الأدب والفن, أو يحول بينها وبين القراء"1.

ومن ذلك يبين أن السبب الذي أدَّى إلى ظهور فن العمود الصحفي في مقال طه حسين، هو نفسه السبب الذي جعله يرسل أنفاسًا "حارَّة محرقةً كأنها شُعَلٌ من نار تضيء لقرائنا الطريق, وتهديهم إلى قصد السبيل"2. ولعل في ذلك ما يجعلنا نذهب مع الباحثين في الصحافة إلى أن العمود الصحفي الإنساني هو الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد ممكن من صحف العالم3 من جهة، وهو الذي يمكن أن تجمع فصوله في كتبٍ كما في "جنة الشوك" و"جنة الحيوان" من جهة أخرى. فإذا كانت الصحافة عملًا اجتماعيًّا محلي النزعة، فإن العمود الصحفي بطابعه الإنساني يستطيع أن يصل بالصحافة إلى مرتبة الأدب؛ لأنه يتجه دائمًا إلى النفس البشرية، وإلى الاهتمامات العامة4. وعن هذه الرؤيا كان يصدر طه حسين حين ذهب إلى أن فن العمود الصحفي في مقاله إنما هو "أدب جديد"5 جاء نتيجة لما "صُدِمَت به مصر من ألوان الكوارث في حياتها السياسية التي حَدَّتْ من حرية الرأي والقول بين حين وحين4، ذلك أن هذه الكوارث "زادت العقل المصري قوة وأيدًا؛ لأنها عامته العكوف على نفسه، وفتقت له ألوانًا من الحيل للتعبير عَمَّا كان يريد أن يعبر عنه"6، ولا ندري كما يتساءل طه حسين، "أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثَّر في حياتها السياسية, ولكنَّ الشيء الذي لا شكَّ فيه هو أن هذه الأزمات السياسية التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئًا ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علَّمته كيف يثبت للخطوب, وكيف ينفذ من المشكلات"7.

فالظروف السياسية التي مرَّت بها مصر إذن هي السبب الحقيقي في ظهور العمود الصحفي في أدب طه حسين، على أن هذا السبب يرتبط كذلك بما اتصف به القرن العشرون من عامل السرعة، أو كما يصفه طه حسين, فأننا نعيش في "عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015