يكشف هذا الفن المقالي في صحافة طه حسين عن عناصر أصيلة ومظاهر تجديدية في آنٍ معًا، فهو يلتقي مع الرسائل -المقالات في تراثنا العربي, كما يلتقي مع رسائل فولتير ومونتسكيو، كما سيجيء، ويلتقي مع فنِّ المقال بمفهومه الحديث, وفي تراثنا العربيِّ وجدنا شكل الرسائل يقترب بها من أن تكون مقالات، توشك أن تكون أحيانًا مقالات مطوَّلة تدرس أفكارًا طارئة أو دافعًا جديدًا، وهي أحيانًا مقالات موجزة توشك أن تكون معالجة آنية لحدث يومي طارئ1، وهي أحيانًا موضوعية, وأحيانًا ذاتية, بعضها يغلب عليه أن تكون الفكرة وحدها هي التي تتحكم فيه، وبعضها تتعاون فيه مقتضيات الفكرة وطرق الأداء لتصرفه على هذا النحو أو ذاك2. ومن ذلك ما نجده في رسائل الجاحظ التي تقترب أن تكون خطوة واسعة جدًّا على طريق المقال المعاصر، فيها الموضوع الذي يشغل الذهن أو الحادثة التي تملأ القلب، وفيها التفكير في هذا الموضوع, وفيها الخلاص من ذلك إلى التعبير عنه بنوعٍ من الأداء، يجمع بين عمق الفكر وجمال العرض، ويطول ذلك أو يقصر تبعًا لكثير من الظروف والمناسبات. ويتوسَّل طه حسين بهذا الفنِّ الأصيل في تراثنا العربي توسلًا وظيفيًّا هادفًا في أداء الفكرة السياسية أو الاجتماعية، التي تمثّل منطلق الرسالة المقالية وهدفها في صحافته. ذلك أن هذه الرسائل المقالية في صحافة طه حسين تضع الذيوع العريض الذي يتناول الكتلة الكبرى من الناس ويتصل بالجماهير، هدفًا رئيسيًّا لها, ومن هنا تكتسب عناصر الأصالة في مقال طه حسين وظائف صحفية حديثة، تصل بين صحافته وبين الذيوع في الحياة العملية، وتأخذ الرسائل الجاحظية في مقال طه حسين بعض صفات المقال الحديث: الوصول إلى أكثر مَنْ تستطيع أن تصل إليهم مِن الناس.
ونرى أن الرسائل الجاحظية من أنسب أساليب المقال في تراثنا لأداء هذه الوظائف الصحفية الحديثة، لما تمتاز به من اليسر والمرونة وسهولة اللفظ والموسيقى، الأمر الذي يظهر لنا في توسّل طه حسين بهذا الشكل المقالي في "مرآة الضمير الحديث" الكتاب الذي ضمَّ مقالاته الجاحظية, وقد صدر أولًا