تشغل أذهان أبناء مجتمعه، على نحو ما تبيَّن من استمرار دوران ذهنه وخلقه الفكري حول بعض الميادين المحدودة التي كانت تشكِّل ما يشبه الشرايين الكبرى لتحركه الصحفي, والتي كانت تصب في قنواتها الواسعة الفرعية المنحدرة مما لا يحصر من الموضوعات إلى آفاق بالغة التشعب، وما يبدو من تلازم وتقارب بين الاتجاه العام لخُطَى السير في اتجاه المقال في الميدان الثقافي من جهة, واتجاهه في الميدانين الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى، يوضِّح المرامي والوظائف الاجتماعية التي تتحدد في استراتيجية قومية يصدر عنها المقال الصحفي.
وعن هذه الرؤيا الاجتماعية يتمثَّل التناغم والتوافق بين طه حسين كمرسِلٍ، وبين القارئ كمستقبلٍ، في نموذج اتصالي يصدر عنه سلوكه الواقعي، ويجسِّد تجربته الاتصالية في المقال الصحفي عن قصد ووعي، فيجعل هذا المقال على قدر التجربة, ويمثلها أصدق تمثيل.
وقد رأينا هذه الرؤيا الاجتماعية في الوسائل والغايات، التي تنتظمها استراتيجية قومية تنطوي على أهداف فرعية أو مرحلية تشبه معالم الطريق للوصول إلى الهدف النهائي، وفي ضوء هذه الرؤية، تبيّن من دراسة مضمون المقال عند طه حسين، أن زوال الاتجاهات التقليدية في المجتمع المصري، ليس غاية في ذاته؛ ولكنه هدف فرعي أو مرحلي، يوصِّل إلى تحقيق الغاية القومية في بناء مصر الحديثة، ولذلك وجدنا مقاله يذهب إلى التوسّل بأسباب الحضارة الأوربية في بناء الشخصية المصرية الحديثة، كما وجدناه يوظِّفُ الاتصال بالجماهير كمضاعف للتحرك الأعظم في إطارٍ من الوسائل والغايات.
وتعَرَّفْنَا على منهجين في مقال طه حسين، ينبعان من هذه الرؤية الاجتماعية والاستراتيجية القومية، ونعني منهج التغيير، ومنهج التدعيم، ويقوم هذان المنهجان على فهمٍ للشخصية المصرية, وما تمتاز به من عناصر التجديد والأصالة، ولذلك رأينا أن قضية "الشعر الجاهلي" إنما ترتبط بمغزاها الاجتماعي العملي، من حيث مكانها من رؤياه القومية، ودورها في تصدُّع المجتمع التقليدي باتجاهاته السلبية التي تعوق تطور المجتمع العربي، وذهبنا من ذلك إلى أن منهج هذا الكتاب وما لازمه من مقالات، ليس منهجًا فلسفيًّا يستخدم في العلم والفلسفة فحسب، ولكنه عند طه حسين يرتبط بمنهج التغيير الاجتماعي لتحرير العقل العربي من سلطان الجمود.
وفي مقابل هذا المنهج، ذهبنا إلى أن قضية "التبشير" وما أسفرت عنه من نتائج، إنما تمثِّلُ منهج التدعيم في أكمل صوره للقيم الدينية الإيجابية، وهو منهج لا يتناقض مع منهجه في التغيير الاجتماعي، وإنما يتمم عمله، ويكمل دوره في إطار قومي عام, ولما لهذه القضية -التبشير- من آثار إيجابية في