أثاره في أوراق البردي، الأمر الذي يشير إلى تهيؤ هذه البيئة المصرية حين تقبل المطبعة لتحدث ثورتها في الاتصال بالجماهير، إلى تَقَبُّل الفنون الصحفية وإنمائها وإنهاضها، وفقًا لفطرة أصيلة من موروثات الحضارة الفكرية فيها.
وفي هذه البيئة يَتَمَثَّل طه حسين عناصر الأصالة في مقاله، في رافدين كبيرين؛ أولهما: الرافد المصري الذي لوَّنته البيئة المادية، وثانيهما: الرافد العربي الذي يحمل في أعطافه خصائص الأدب العربي من ناحية, وبعض الموروثات من الحضارات الأخرى، التي تمصَّرت كلها حتى اتضحت في عصر النهضة الصحفية الحديثة، وما صدر عنها من آثار مقالية، إلى جانب ما تحدر من بذور مقالية في الأدبين المصري القديم والعربي الإسلامي، تشير إلى تقاليد مكينة وعريقة في الشكل والمضمون، كما انتهينا إلى أن البيئة المصرية هي التي وجَّهَت المقال الصحفي عند طه حسين إلى تحقيق صلة ثقافية بين الشعوب العربية أولًا, وبين هذه الشعوب وأمم العرب ثانيًا، كنتيجة لمكان البيئة المصرية في التوسُّط الحضاري بين الشرق والغرب.
على أن هذه الصلة، إنما اتخذت أبعادها النهائية، عند طه حسين, بعد مراحل من الصراع الناجم عن الاتصال بالحضارة الأوربية، وما أسفر عنه من تغيير خصائص كثيرة من خصائص النفس العربية، فاضطرت إلى أنحاءٍ من التصوُّر والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، كما دفع هذا الاتصال عنصر التطور إلى العمل من جديد في طريقين متعاكستين، فقد كان أحياء الأدب القديم يدفع العقل المصري الحديث إلى وراء, ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالثقافة الأوربية وحضارتها يدفع العقل المصري إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال، وألقت هذه الصورة على صحافة طه حسين مهمة الاستمرار بعنصر التطور والانتقال في تَقَدُّمِه واطراده، والشد من قوة العقل المصري في الثبات لهذا التعاكس العنيف والانتفاع به أشد انتفاع، الأمر الذي أدَّى إلى تطور مضمون المقال الصحفي وفنونه في صحافة طه حسين.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون الأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد وحسين هيكل والعقاد وطه حسين من روَّاد المقال الصحفي, الذين استقامت لهم طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، فاحتفظ المقال على أيديهم بأصوله الأساسية، ولم يستعص على التطور، واستطاع هؤلاء بجهودهم الرائدة الرائعة أن يخلقوا لغةً للفنِّ الصحفي العربي تقترب من لغة الأدب وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط.
وقد وضح من خلال دراستنا لمقوماته الخاصة، ومصادر ثقافته، وتمثل