الاجتماعي والعمل السياسي في العالم العربي بأسره على مدى ثلاثة أجيال.
فرأينا طه حسين يتمثَّل مفهوم المقال الصحفي في تحرير العقل مما فرضته القواعد السلفية ليفكِّر تفكيرًا صحيحًا مستقيمًا منتجًا، الأمر الذي يستتبع تحرير العقل في التفكير، مما يشير إلى ارتباط فن المقال بالاتجاه القوي نحو التعقيل، متفقًا في ذلك مع أئمة المقاليين في عصر النهضة الأوربية، ولذلك وجدناه يذهب إلى تحديد حرية العقل أمام العقل في حرية وصراحة وفي غير تَحَفُّظٍ ولا احتياط. كما وجدناه ينتهي إلى تحديد ماهية فن المقال أمام وسيلة الاتصال الجديدة بالجماهير، على النحو المستفاد من بيئته الصحفية العامة، فالصحافة هي الوعاء المادي للمقال بفنونه المختلفة، وهي لذلك تقتضي وضع خطوط فاصلة واضحة بين فن المقال بمفهومه الجمالي الأدبي، وفن المقال بمفهومه الوظيفي الصحفي، الذي يقتضي تنوعًا في الشكل والموضوع، على نحو ما وجدناه عند طه حسين، حين يشتق موضوعات مقاله الصحفي ولغته من الحياة الواقعة، ثم يعيد توصيلها في رسالة مقالية عن طريق وسيلة الاتصال الصحفي إلى جمهور القارئين في نفس تلك الحياة الواقعية، على اختلاف أذواقهم وأفهامهم وثقافاتهم وطبقاتهم. وانتهى من خلال هذا الفهم لفنِّ المقال الصحفي، كفنٍّ حضاريٍّ يقوم على وظيفة اجتماعية عملية، إلى توظيف المقال الأدبي نفسه، واستثماره كقالبٍ جديد يصوغ فيه الأفكار، ويتخِذُ منه سلاحًا ماضيًا في النقد والتعقيب، وأداة فعالة للتوجيه والإرشاد، وقد يقصد بها إلى الإخبار والإعلام في بعض الأحيان. ومن أجل ذلك وجدنا طه حسين يحقق في صحافته التقارب المنشود بين المستويات اللغوية، التي تبعد المسافة بينها في عصور الانحطاط، وتقرب وتضيق في البيئة المتحضرة التي يعيش فيها -الكاتب للجمهور وبالجمهور.
وانطلاقًا من فهم عملية الإعلام على أنها في جوهرها عملية اتصال بين كاتبٍ وقارئ عن طريق وسيلة إعلامية، تنتقل بواسطتها الرسالة الإعلامية من طرفٍ إلى آخر، تعرفنا على أثر البيئة المصرية العامة، والمقومات الشخصية للدكتور طه حسين، ومصادر ثقافته، في تكوين مقومات الاتصال الصحفي في مقاله، الذي لولا ملاءمة البيئة لعبقرية كتابه، وتفاعلهما معًا، وتجارب القرَّاء لما أمكن ظهور هذا الفن ثم ازدهاره.
وقد ظهر من ثنايا دراستنا لبيئة المقال الصحفي في مصر، أن البيئة المصرية من أصلح البيئات لنشأة فنِّ المقال ونموّه وازدهاره، كنتيجة لطبيعتها، ومقومتها، فالمصرين من أشد الأمم شغفًا بأحاديث الدول، وعنايةً بالخصومات السياسية، واستطلاع الحكومات، لما تعاقب عليهم من التجارب وتوالى على أسماعهم من أحاديث الصاعدين والهابطين، إلى جانب الميل القديم الذي ظهرت