...
الفصل الرابع: أساليب التحرير في مقال طه حسين
نواصل في هذا الفصل التعرُّف على عناصر الأصالة ومظاهر التجديد في مقال طه حسين، بعد أن تعرَّفْنَا على هذه العناصر في أسلوبه الصحفي، ذلك أن الوعي بالذات هو الصفة الغالبة في الرؤيا الإبداعية لديه، والدراسة التي تقوم بها في مقال طه حسين تؤكِّدُ غلبة الفكر الناقد في مقاله من خلال اختيار الموضوع والشكل واللغة، وأساليب التحرير، من أجل إيجاد الاتصال والفهم المشترك، على نحو ما يتضح في نموذجه الاتصالي بالجماهير.
فالوضوح والتحكُّم الواعي اللذان يصبغان نظرة طه حسين إلى أساليب التحرير الصحفي، إنما يمثلان صياغة اتصالية للإدراك المتصل في مراحل تطوره الصحفي، ذلك أن هذه الوسائل وتلك الأساليب التحريرية، تخضع للرؤيا الوظيفية في تحويل التجربة الصحفية إلى فنٍّ مقالي يتوسَّل بالرموز لتحقيق الوظيفة الواضحة في ذهن الكاتب، الأمر الذي يميز مقاله بترتيب المعاني وفقًا لنسج مميز، يجعل لفظه دقيقًا محقِّقًا للاتصال والفهم المشترك؛ فهو لا يهجم على القارئ "برأيه فيلقيه إلقاء الآمر، وإنما يلقاه صديقًا لطيفًا، ثم يأخذ بيده أو بعقله وشعوره, ويدور معه مستقصيًا المقدِّمَات محللًا ناقدًا، يشركه في البحث حتى يسلمه الرأي ناضجًا, ويلزمه به في حيطة واحتياط"1، وذلك في عبارات "رقيقة عذبة, أو قوية جزلة, فيها ترديد الجاحظ وتقسيمه, فإذا قَصَّ أو وصف أخذ على القارئ أقطار الحوادث والأشياء, ودخل إلى أعماق الشعور وجوانب النفوس مدققًا متقصيًا، يخشى أن يفوته شيء, ولا يخشى الملاك في شيء دقيق الشعور، صافي النفس، نبيل الجدل حادَّه، يسير مع خصمه بعقله حتى إذا آنس منه الغضب أو التولي تركه وانصرف"2.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن أساليب التحرير في مقاله طه حسين لا تنفصل عن رؤياه الإبداعية، وإنما تنبع منها من خلال التحكم الواعي والاشتغال بالمعاني والوضوح والوظيفية الهادفة، يتوسّل بالأدوات الفنية ضِدَّ الشوائب والأعراض التي تَصْحَبُ عملية تنظيم العنصر البدائي الخام في التجربة، وتحويله إلى عمل فني، سواء كان هذا العمل قصة أو مقالًا، فإنه يدمج بين العمل الإبداعي والعمل النقدي من أجل تحقيق الاتصال والفهم المشترك، ذلك أن طه حسين "يتدبَّر مقاله قبل الشروع في الكتابة"