كما يفعل المغنون بالقصيد1. وكان طبيعيًّا إذن أن يشدو طه حسين في بواكير حياته الأدبية بالشعر على نحو ما فَصَّلْنَا في كتابنا "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي", وأن تجد قصائده طريقها إلى المحافل العامة، ذلك أن أذنه المرهفة قد يَسَّرَت له من غير شكٍّ إدراك الإطار الموسيقى العام للشعر العربي التقليدي، كما أن المرحلة الأولى من سيرته الأدبية والصحفية كان من طبيعتها أن تعتصم بالتقليد، كما أن الأذن أكثر محافظة من العين, وهي أمور تفسِّرُ الباعث على إيثار القوالب المألوفة في النظم العربي، وتوضح سبب اتخاذه في أسلوبه النثري أبعاد المصاريع والأبيات الكاملة والمجزوءة في أكثر الأحيان2، وهي الحقيقة التي تدفعنا إلى أن نعترف بأن الموسيقى جزء لا يتجزأ من المضمون التعبيري في اللغة اللسانية. فالموسيقى تُوجَدُ في كل ما يصدر عن الإنسان من كلام، وليس الشعر هو الذي يتأثر بالعنصر الموسيقي دون النثر الفني, ولا بُدَّ من البحث عن مقوِّمٍ آخر يرتبط بمدى الموسيقية، لكي نفرِّق بين الشعر والنثر الفني.
على أن هذه المسالة التي قد تبدو خلافية بين النقاد والأدباء، لا تصرفنا عن الاستخدام الوظيفي للموسيقى في أسلوب طه حسين الذي يرتبط "بفنِّه الواعي رغم تلقائيته"3؛ لأنه قد خلع على النثر العربي ثوبًا جديدًا, وجعل وسائل التعبير به مقصورة على ما هو جوهري, وجرَّدَه من تلك المحسنات البلاغية التي لازمته من عهدٍ بعيدٍ دون أن ينتزع ما في عباراته الأصلية من جزالة. كما أنه حوَّل تلك العبارات النحوية المعقَّدَة إلى جملٍ بسيطة دون أن يفقدها جمالها الأصلي4. وإننا نجد كل هذه المزايا في كل ما كتبه من صفحات تشير إلى "أستاذٍ في فنِّ الكتابة والأسلوب", كما يقول "جوجيود بلافيدا" في مقالٍ عن طه حسين.
وهذه العناصر الفنية في الأسلوب الصحفي عند طه حسين لا تُقْصَدُ لذاتها، وإنما يستخدمها استخدامًا وظيفيًا كما تَقَدَّمَ، بحيث تمتاز بطابعه العقلي والعملي معًا، فالتقطيع الموسيقي والنغم الشعري في هذا الأسلوب يَنُمُّ عن حركة عقلية، ودعوة عملية، تتخذ من هذا التقطيع وهذا التنغيم إيقاعًا لحركتها، بل إن هذا الإيقاع لديه قد يكون إيقاعًا "استدلاليًّا قياسيًّا", كما قد يكون "إيقاعًا استقرائيًّا" كما تَقَدَّمَ، لارتباطه بالغاية العقلية العملية في مقاله.