الأسلوب الاستقصائي:
ونعني بذلك أن التعبير العملي وواقعية الاتجاه في مقال طه حسين يتجهان بأسلوبه إلى استقصاء الفكرة أو الموضوع أو الشواهد والمضيّ بها جميعًا من البداية إلى النهاية، ولعلَّ ذلك يرجع إلى مزاجه العلمي ومقوِّمَات ثقافته القديمة والحديثة، وقد يرجع إلى ظروفه البصرية التي أملت عليه أسلوب الحديث في مقاله فطابقت "براعة الكاتب فيه براعة المحدث، وكان أسلوب طه حسين الكتابي أسلوب الحديث، ومن خصائص هذا الأسلوب أن يمضي فيه صاحبه عفو الخاطر الدافق، سهلًا لين المرأس مسرعًا مستمهلًا، مستوقفًا مستفهمًا جازمًا، ساخرًا قافزًا مستطردًا مرددًا معيدًا"1. كما يقول خليل ثابت صاحب المقطم في وصف أسلوبه2، وكما يذهب المازني3 إلى ذلك أيضًا، والذي يُرْجِعُ خصائص هذا الأسلوب كذلك إلى أنه أستاذ مدرس، والأستاذ حريص دائمًا على أن يبسط الموضوع لتلامذته؛ ليتأكد من فهمهم له وإدراكهم جزئياته: "وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغني في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه إلّا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية"4.
ومهما يكن من شيء، فإن الاستقصاء في أسلوب طه حسين أداة من أدوات الاستقراء المنهجي في مقاله، يتمكَّن من خلاله من بلوع اليقين التحليلي في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفذ قواه في جهود ضائعة، فهو لا ينسب إلى الأشياء أو الشواهد إلّا ما يدركه إدراكًا بديهيًّا في معاني تلك الأشياء وهذه الشواهد، على النهج الديكارتي5 في الانتقال من "المعاني" إلى "الأشياء", وهو النهج الذي يقتضي القيام في كل جزء باستقصاء مراجعات عامَّةٍ بحيث يثق بأنه لم يغفل شيئًا6، كما يقتضي تقسيم المسائل التي يناقشها في مقاله ما وسعه التقسيم إلى عدد من الأجزاء على أفضل نحو7. على أن هذا الأسلوب الاستقصائي عند طه حسين يقوم على قوة إدراكٍ عقلي فائقة، وبنية عقلية وذهنية تمكِّنُه من استيعاب كل ما يُلْقَى على سمعه, وعلى اختزان كل المتلقيات الحسية والذهنية، ثم إنها تمكِّنُه من تحليل المعلومات التي تتلقاها حواسَّه وتصنيفها تصنيفًا منهجيًّا8 يؤلف بين هذه المعلومات المتلقاة, ويربط فيما بينها, ويدمج ما يلزم منها، ويفرز ما لا يلزم، لتكوين الأفكار والرؤى وتوليد الصور الذهنية التي يختزنها أو يدفع بها عَبْرَ قلمه أو لسانه.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن الأسلوب الاستقصائي في مقال طه حسين