دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ" [هود:94]، وكما في خبر نوح، ولوط، وغيرهم من رسل الله، قال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ" [الأنبياء: 7 - 9]، وقال الله عز وجل عن أصحاب السبت: "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" [الأعراف:165]. ولهذا قال حبر الأمة وترجمان القرآن: "لم يُعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا".
فهذه وغيرها أدلة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لمنع العذاب العام، فإذا قيل فما بال القرى ترتجف فيهلك فيها الصالح والطالح، أجيب بأن الصالح لا يلزم أن يكون مُصلحاً، وإن كان صالحاً، فإن تركه الأمر والنهي قد يكون معصية لا ترفع عنه وصف مُطلق الصلاح، وبخاصة مع تأوله وتركه الهجرة المتعينة، ولهذا قال: عمر بن عبد العزيز كان يقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم. قال أبو الوليد الباجي: "يريد قول الله عز وجل: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام:164 وغير آية]، وقوله _رضي الله عنه_ ولكن إذا عمل المنكر جهاراً يقتضي أن للمجاهرة بالمنكر من العقوبة مزية ما ليس للاستتار به وذلك أنهم كلهم عاصون من بين عامل للمنكر وتارك للنهي عنه والتغيير على فاعله، إلا أن يكون المُنكر له مستضعفاً لا يقدر على شيء فينكره بقلبه فإن أصابه ما أصابهم كان له بذلك كفارة وحُشر على نيته".
وقال ابن العربي في قول الله تعالى: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" [الأنفال:25]: "وتحقيق القول في ذلك أن الله قال: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" [البقرة:286]. وقال: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام:164 وغير آية]، فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب، بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سُكت عنه فكلهم عاص؛ هذا بفعله، وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم الذنب بالعقوبة، ولم يتعد موضعه، وهذا نفيس لمن تأمله".
(وللتنبيه فقط مقولة الراضي كالفاعل للإثم صحيحة لكن هذا من حيث الإثم أما من حيث رتبة الإثم فلا , وشتَان ما بينهما إذ أن الراضي أقرب للمغفرة من الفاعل , علماً بأن السكوت عن المنكر لغير موجب شرعي لا يلزم منه الرضا بالمنكر وإن كان آثماً على سكوته أما السكوت عن المنكر لموجب شرعي لا إثم فيه بل فيه الأجر والمثوبة).