عدم ذكره لا يتغير به الحكم فإن هذا لا يهمنا، الذي يهمنا القضية الواقعة سواء كان الذي وقعت منه فلانًا أم فلانًا، ولهذا قال: "أن رجلًا من الأعراب"، والأعراب اسم جمع للأعرابي وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجهل لقول الله- تبارك وتعالى- {الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة: 97]، ولكن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، فالغالب عليهم الجهل.
"قال: لكن من الموجّه ومن الموجَّه إليه؟ الموجّه: أعرابي، فالناس عنده سواء، والموجَّه إليه أحلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي كلمة عظيمة "أنشدك الله" يعني: أذكرك الله عز وجل وأعاهدك به أن تقضي بيننا بكتاب الله، وهذا لا يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا قضى سوف يقضي بكتاب الله ولا بد، قال العلماء: إن قوله: "إذا قضيت" فيها إشكال، من جهة أنها وردت على جملة مثبتة فقالوا: إن "أنشدك" على تقدير "ما" أي: ما أنشدك إلا القضاء بكتاب الله، وعلى هذا فتكون إلا حرف استثناء مفرغ وليست مثبتة؛ لأنه "أنشدك" على تقدير: ما أنشدك إلا كذا.
"إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى" يعني: إلا حكمت، القضاء هنا بمعنى الحكم، وقوله: "بكتاب الله" أي: بمقتضى كتاب الله، سواء كان من عند الرسول صلى الله عليه وسلم أو من القرآن، "فقال الآخر- وهو أفقه منه-: نعم، فأقضِ بيننا بكتاب الله"، قوله: "الآخر وهو أفقه" جملة معترضة تبين حالة الرجل الثاني وهو أنه أفقه من الأول، ولكن من أين علم الراوي أنه أفقه؟ يحتمل أنه علم ذلك بأنه لم يقل كما قال الأعرابي "أنشدك الله"، أو أنه يعلم من حالة أنه أفقه لكونه مدنيًّا حضريًّا من أهل الإقامة والمدينة، والغالب أن هؤلاء أفقه من الأعراب، المهم أنه تبين للراوي أنه أفقه من الأول، قال: "نعم" هنا حرف جواب، ولكنها ليست حرف جواب في الواقع، ولكنها لتحقيق ما سبق، ويستعملها العلماء في كتبهم، ولا سيما العلماء الذين يكتبون كتابة مستقلة، يقول: نعم لو كان كذا وكذا فهي حرف لتصديق ما سبق هنا، وإلا فالأصل أنها جواب لاستفهام.
"فاقض بيننا بكتاب الله" "اقض" الأمر ليس للوجوب طبعًا؛ لأنه ليس في مرتبة تؤهله أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الوجوب، ولكن نقول: إنها من باب الالتماس والترجي وما أشبه ذلك.
"وأذن لي" يعني: أرخص لي أن اتكلم، وهذا من أدبه أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، والأعرابي لم يستأذن فقال "قل"، يعني: قل ما شئت، وهذا إذن، قال: "إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته"، "على هذا" يعني: الأعرابي، و"عسيفًا" بمعنى: أجبرا، فهو كأجير لفظًا ومعنى، وإن شئت فقل: كأجير وزنًا ومعنى، فمعنى عسيفًا أي: أجيرًا عليه، يعني: قد استأجره لرعي إبله أو غنمه أو ما أشبه ذلك، "فزنى بامرأته" الزاني العسيف الابن، ويظهر أن هذا شاب.