قال: "يخير احدهما الآخر"، ومعنى يخير أحدهما الآخر: يقول الخيار لك وحدك بأن يتنازل عن حقه، فإذا تنازل احدهما عن الآخر صار الذي تنازلا لا حق له في الخيار، والثاني له الخيار، وإذا تنازل كل منهما عن الخيار فلا خيار لواحد منهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط الخيار عمن تنازل عنه فالخيار عمن تنازل عنه من الطرف الثاني أيضاً جائز، وعلى هذا إذا تبايعا على أن لا خيار لأحدهما، أو تبايعا ثم أسقط أحدهما خياره، فهذا جائز كما يدل عليه الحديث، قال: "أو يخير أحدهما الآخر" يعني: يقول: الخيار لك وحدك.
قال: "فإن خير أحدهما الآخر فتبايع على ذلك فقد وجب البيع" أي: لزم على حسب ما اشترطاه، فإن خير كل واحد منهما الآخر فلا خيار، وإن البائع المشتري فالخيار للمشتري وحده، وإن خير المشتري البائع فالخيار للبائع وحده.
"وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع" "وجب" أي: لزم وثبت فصار وجوب البيع في صورتين:
الأولى: إذا خير أحدهما الآخر لزم في حق المخير، وإن خير كل واحد منهما الآخر لزم في حقهما جميعاً.
الصورة الثانية التي يجب فيها البيع: إذا تفرقا، والتفرق ليس له حد شرعي فيرجع في ذلك إلى العرف.
من فوائد الحديث: أولاً: ثبوت الخيار للمتبايعين ما داما لم يتفرقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا".
والثاني من فوائده أيضاً: مراعاة الشرع لأحوال الناس؛ لأن هذا الخيار الذي جعل للمتبايعين إنما جعل رفقاً بهما، فإن الإنسان إذا لم تكن السلعة عنده فهي غالية في نفسه، تجده حريصاً على أن يملكها فإذا ملكها فربما ترخص في نفسه ويختار ألا يتملكها وهذا شيء معلوم، ولهذا يقال: أجب شيء إلى الإنسان ما منع، فهي لما كانت في ملك غيره يجد نفسه متعلقة بها، فإذا ملكها هانت عنده، فجعل الشارع له الخيار ولكنه لم يجعله خياراً مطلقاً؛ لأنه لو جعله خياراً مطلقاً لزم يكون العقد اللازم عقداً جائزاً، وإن جعله- أي: الخيار- إلى مدة غير معلومة بل هي منوطة بما يتشهى كل واحد صار الخيار مجهولاً، فلهذا جعله الشارع لمدة معينة تجعل للإنسان حرية بعض الشيء، ولا تذهب لزوم العقد، ولا توقع العقد في جهالة، فالمسألة إما أن يقال: لا خيار مطلقاً، أو بثبوت الخيار مطلقاً، أو بثبوته ما داما راضيين به، أو بثبوته ما داما في المجلس، فإذا قلنا: لا خيار لزم من ذلك التضييق على الناس وألا يعطوا فسحة يتروى فيها الإنسان، وإذا جعلنا الخيار مطلقاً لزم أن يكون العقد اللازم جائزاً، وإن قلنا: لهما الخيار