F عطية صقر.
مايو 1997
Mالقرآن والسنة
Q هل كان الأنبياء ملتزمين للوحى الذى يأتيهم من عند الله، أو كانت لهم اجتهادات فى بعض الأحيان لا يلتزمون فيها بالوحى؟
صلى الله عليه وسلمn ذكر القرطبى فى تفسيره لقوله تعالى {وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث} الأنبياء: 78 أن العلماء اختلفوا فى جواز الاجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم، وجوزه المحققون، لأنه ليس فيه استحالة عقلية، فالعقل دليل شرعى، وهو يكون إذا لم يوجد نص، وفى بعض الأحيان لا يكون هناك نص فى مسألة، بل لهم الاجتهاد فى النص، وهم معرضون للخطأ فيه، إلا أن الله سبحانه لا يقرهم على خطئهم.
وذكر القرطبى أن النبى صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن العدة، فقال لها " اعتدى حيث شئت " ثم قال لها " امكثى فى بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " وقال له رجل: أرأيت لو قتلت صبرا محتسبا أيحجزنى عن الجنة شىء؟ فقال " لا " ثم دعاه فقال " إلا الدين، كذا أخبرنى جبريل عليه السلام " وقد قرر القرآن الكريم أن داود أخطأ فى الحكم فى قضية الغنم التى أكلت زرع الغير، وفهَّم الله الحكم الصحيح لسليمان، فذلك دليل على أن الأنبياء لا يقرون على خطئهم، فحكمهما كان باجتهاد كما رآه الجمهور، وليس حكم داود بوحى نسخه وحى نزل على سليمان.
وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر رضى الله عنهما فى شأن أسرى بدر، ثم اختار رأى أبى بكر، وأقره الله عليه وأباح له فداءهم وأحل له المال الذى أخذه فدية، قال تعالى {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} الأنفال: 68، 69 كما ثبت أنه قبل اعتذار بعض المنافقين عن تخلفهم عن الغزوة بناء على ما أبدوه من أعذار، فنزل فى ذلك قوله تعالى {عفا الله عنك لمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} التوبة: 43.
فالخلاصة أن الأنبياء لهم الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص، وفى فهم المراد من النص، ويجوز عليهم الخطأ على رأى الجمهور، إلا أنهم لا يقرون على خطئهم، وقد وقع الاجتهاد من بعضهم كداود وسليمان ومن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصوره كثيرة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعمل القياس فى اجتهاده، فقد صح فى البخارى أن امرأة من جهينة قالت له: إن أمى نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال "حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالقضاء" وروى مسلم أن رجلا قدم من جيشان -باليمن - فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له "المزر" فقال له " أوَمُسكر هو "؟ قال: نعم، فقال "كل مسكر حرام ". وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فللمسلمين فيه أُسوة حسنة، أى يجوز لهم الاجتهاد، فى حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقد أقر سعد ابن معاذ فى بنى قريظة حيث حكم بقتل الرجال وسبى الذرارى والنساء وأخذ أموالهم وقال له " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات " كما رواه البخارى ومسلم، ولما توجه الصحابة إلى بنى قريظة قال لهم " لا يصلينَّ أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة " فوقف بعضهم عند النص احترامًا له ولم يصل العصر إلا فى بنى قريظة وقد فات الوقت. وفهم بعضهم من النص أن المراد هو الإِسراع والمبادرة فصلى العصر قبل الوصول إلى بنى قريظة حفاظا على الوقت، ولما ذكروا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدا منهم، رواه البخارى ومسلم، وإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن حين قال فى القضاء:
أقضى بالكتاب فإن لم أجد فبالسُّنة، فإن لم أجد أجتهد رأيى ولا آلو، حيث قال له: " الحمد لله الذى وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى الله ورسوله " رواه أبو داود والترمذى