ولا يمكن إغفال التأثير السلبي لموجة المادية العنيفة التي تجتاح أمتنا، وما خلفته من آثار طالت الكثيرين، وغيرت بعض المفاهيم، ورفعت سقف الطموح الدنيوي عند أفراد المجتمع، فإذا ما انخرط الدعاة في المجتمع، وهم غير محصنين بالإيمان القوى، فإن آثار تلك الموجة ستصيبهم، ليزداد انجذابهم نحو الأرض والطين، فتضعف الروح، وتصاب العزائم بالوهن، ويصبح همُّ الواحد منهم هو كيفية تحصيل أسباب الحياة المريحة له ولأبنائه، وينعكس ذلك على محيطه الدعوى بالسلب، ليصبح أداؤه أداءً روتينيا يفتقد الحماس والروح، وستراه يتحين كل فرصة للهروب من القيام بأعمال الدعوة، فإن قام بعمل تجده يتحرك بلا روح، وإن تكلم فكلامه مكرر يفتقد الانفعال الصادق، ومن ثم لا تكاد تجد أثرًا إيجابيًا لكلامه أو حركته {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18].
وفي نفس الوقت سيؤدي غياب الروح وضعف الإيمان إلى شيوع ثقافة الانهزامية والرضا بالواقع، والانبهار بأي تجربة تنجح ولو نجاحا جزئيا في إبراز بعض المعالم الإسلامية وإن تخلت عن بعض ثوابت الدين، فالانبهار يعكس الضعف والوهن الذي أصاب القلوب وجعلها تستطيل الطريق وترضى بأي نجاح ولو كان زهيدًا.
وقد يؤدي غياب الروح عن البعض إلى محاولتهم فرض واقعهم على من حولهم، والاجتهاد في تبرير ما يفعلونه رافعين شعارات قد تقنع الآخرين وتدفعهم لتقليدهم في استرخائهم وانشغالهم بمصالحهم الشخصية على حساب العمل الدعوى، ومن هذه الشعارات «مصلحة الدعوة تقتضي ذلك»، «نحن جزء من مجتمع مريض»، «الزمان تغير ولابد من تغيير الوسائل» .. وغير ذلك من الشعارات التي يتم تأويلها على غير وجهها الصحيح، فيؤدي هذا إلى مزيد من الاستسلام للواقع، ومن ثم تزداد نسبة البطالة الدعوية، ويقل تدريجيا عدد من يحمل همّ الدين، ومن يعمل على إنقاذ نفسه والأمة من بعده.
عندما سأل أحد السلف أخاه قائلاً: ما لنا نذهب للاستماع إلى الحسن البصري فنتأثر بكلامه تأثرًا بالغًا، ونذهب إلى غيره فلا نشعر بنفس الإحساس والأثر، فأجابه بكلام بليغ يشرح بإيجاز الفارق بين من يعمل بروح ورغبة في نفع الآخرين، وبين من يعمل بلا روح ولا مشاعر، فقد قال له: «ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة».
ومع التأكيد على حرمة النياحة، إلا أن المعني الذي تشير إليه العبارة صحيحًا، ويشخص واقعًا موجودًا عند البعض.
فعندما تغيب الروح عن الفرد الذي يعمل في حقل الدعوة فإن أداءه يتحول من كونه صاحب دعوة يحمل همها، ويسعى لنجاحها وبلوغها الأهداف المطلوبة، إلى ما يشبه (المُسْتَأجر) أو (الموظف)، الذي يؤدي عمله بلا روح، وينتظر دومًا موعد الانصراف، ويفرح بأيام العطلات، ويحزن كلما زادت الأعباء عليه .. فأي خسارة تخسرها الدعوة حين يزداد عدد (الموظفين) فيها، ويقل عدد من يحمل همها بين جوانحه؟!
وكما أن غياب الروح، وشيوع ثقافة اليأس والانهزامية والانجذاب نحو الدنيا، والغرق في بحر الشهوات هو أخطر مرض يمكن أن يصيب الأمة، فإن غياب الروح عن أصحاب الدعوات وتبدل اهتماماتهم، وضعف إيمانهم، لمن أشد الأخطار عليها، وعلى مشروعها الرامي لاستئناف الحياة الإسلامية الصحيحة وكيف لا، وعدد الأيدي العاملة سيتناقص تدريجيا .. سيكثر الكلام والتخطيط والتنظير والجدال، وسيقل التطبيق والعمل، ناهيك عن أن الأعمال التي قد يؤديها البعض ستفتقد للروح، لتكون النتيجة: عمل بلا ثمرة، وجهد بلا أثر .. مجهود كبير يبذل وأثر غائب.