وما شرع حكماً إلا لإيجاد وحفظ واحد من هذه الثلاثة، فهو ما شرع حكماً إلا لتحقيق مصالح الناس وما أهمل مصلحة اقتضاها حال الناس لم يشرع لها حكماً.
أما البرهان على أن مصالح الناس لا تعدو هذه الأنواع الثلاثة: فهو الحس والمشاهدة، لأن كل فرد أو مجتمع تتكون مصلحته من أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية، مثلاً: الضروري لسكنى الإنسان مأوى يقيه حر الشمس وزمهرير البرد ولو مغارة في جبل، والحاجي أن يكون المسكن مما تسهل فيه السكنى بأن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب الحاجة، والتحسيني أن يجمل ويؤثث وتوفر فيه وسائل الراحة، فإذا توافر له ذلك فقد تحققت مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه الأنواع الثلاثة له. ومثل الفرد والمجتمع، فإذا توافر لأفراده ما يكفل إيجاد وحفظ ضرورياتهم وحاجيتهم وتحسيناتهم، فقد تحقق لهم ما يكفل مصالحهم.
أما البرهان على أن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد واحد من هذه الأمور الثلاثة وحفظه فهو: استقراء الأحكام الشرعية الكلية والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، واستقراء العلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من الأحكام.
وقبل أن نعرض أمثلة من هذا الاستقراء نبين المراد شرعاً بالضروري والحاجي والتحسيني.
فأما الضروري:
فهو ما تقوم عليه حياة الناس ولابد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى، والمفاسد.
والأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء:
الدين والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فحظ كل واحد منهما ضروري للناس.