وخرج أمرنا، لا برح مسعداً ومسعفاً، ولا عدمت الأمة منه خلفاً منيلاً ونواء مخلفاً، بأن يكتب هذا التقليد لولدنا الملك السعيد ناصر الدين بركة خاقان محمد، جعل الله مطلع سعده بالإشراق محفوفا، وارى الأمة من منامه ما يدفع للدهر صرفا ويحسن بالتدبير تصريفا بولاية العهد الشريف على قرب البلاد وبعدها، وغورها ونجدها، وعساكرها وجندها، وقلاعها وثغورها، وبرورها وبحورها، وولاياتها وأقطارها، ومدنها وأمصارها، وسهلها وجبلها، ومعطلها ومعتملها، وما تحوى أقطاره الأقلام، وما ينسب للدولة القاهرة من يمن وحجاز ومصر وغربٍ وسواحل وشآم بعد شام، وما يتداخل ذلك من قفارٍ ومن بيد في سائر هذه الجهات، وما يتحللها من نيلٍ وملحٍ وعذبٍ فرات، ومن يسكنها من حقير وجليل، ومن يحتلها من صاحب رغاء وثغاء، وصليل وصهيل، وجعلنا يده في ذلك كله المبسوطة، وطاعته المشروطة، ونواميسه المضبوطة، ولا تدبير ملك كلى إلا بنا أو بولدنا يعمل، ولا سيف ولا رزق إلا بأمرنا هذا يسل وهذا يسال، ولا دست سلطنةٍ إلا بأحدنا يتوضح منه الإشراق، ولا غض قلم في روض أمر ونهى إلا ولدينا أولديه وتمتدّ له الأوراق، ولا منبر خطيب إلا باسمينا يميس، ولا وجه درهم ولا دينار إلا بنا يشرق ويكاد تبرجاً لا بهرجاً يتطلع من خلال الكيس.

فليتقلد الولد ما قلدناه من أمور العباد، وليشركنا فيما نباشره من مصالح الثغور والقلاع والبلاد، وسنتعاهد الولد من الوصايا بما سينشأ معه توأما، ويمتزج بلحمه ودمه حتى يكاد يكون ذلك إلهاما لا تعلما، وفي الولد بحمد الله من نقاء الذهن وصحة التصور ما يتشكل فيه الوصايا أحسن التشكيل، وتظهر صورة الإبانة في صفائه الصقيل، فلذلك استغنينا عن شرحها مسرودة، وفيه بحمد الله من حسن الخليقة ما يحقق أنها بشرف الإلهام موجودة، والله لا يعدمنا منه إشفاقاً وبرا، ويجعله أبداً للأمة سنداً وذخراً.

ذكر المدرسة التي بناها السلطان الظاهر بالقاهرة

وفي أول هذه السنة، كملت المدرسة الظاهرية التي ببين القصرين، ورتب لتدريس الشافعية بها القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، ولتدريس الحنفية مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر بن العديم، ولمشيخة الحديث بها الشيخ شرف الدين الدمياطى عبد المؤمن بن خلف الحافظ.

وكان الإجلاس بها في الخامس من صفر من هذه السنة، واجتمع بها أهل العلم والأدباء والفقهاء، ودرس المدرسون، واندفع الشعراء يمتدحون، فأنشد السراج عمر الوراق.

مليكُ له في العلم حبٌّ وأهلُهُ ... فلله حب ليس فيه ملامُ

فشيدها للعلم مدرسةً غدا ... عراقٌ إليها شيقٌ وشآمُ

فلا تذكرنْ يوماً نظامية لها ... فليس يضاهى ذا النظام نظامُ

ولا تذكرن ملكاً وبيبرسُ مالكا ... وكل مليك في يده غُلامَ

ومذ برزت كالروض في الحسن أنبأت ... بأنَّ يديه في النوال غمام

وأنشد الجمال يوسف بن الخشاب:

قصد الملوك حماك والخلفاءُ ... فافخر فإن محلك الجوزاءُ

أنت الذي امراؤه بين الورى ... مثل الملوك وجندهُ أمراءُ

ملك تزينت الممالك باسمه ... وتجملت بمديحه الفصحاءُ

وترقعت لعُلاه خير مدارسٍ ... حلَّت بها العلماء والفضلاءُ

يبقى كما يبقى الزمانُ وملكه ... باقٍ له ولحاسده فناءُ

كم للفرنج وللتار بابه ... رسلٌ مناها العفو والإعفاء

وطريقه لبلادهم موطؤة ... وطريقهم لبلاده عذراءُ

دامت له الدنيا ودام مخلداً ... ما أقبل الإصباح والإمساءُ

وأنشد الأديب أبو الحسن الجزار:

ألا هكذا يبنى المدارسَ من بنى ... ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا

لقد ظهرت للظاهر الملك همةٌ ... بها اليوم في الدارين قد بلغ المُنا

تجمع فيها كل حسن مفرقٍ ... فراقت قلوباً للأنام وأعينا

ومذ جاورت قبر الشهيد فنفُسه ... النفيسة منها في سرورٍ وفي هنا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015