الثاني في سيرته: كان شجاعاً، بطلاً، كثير الخير، محبّاً للإسلام وأهله، وهم يحبونه، وذكر عنه أنه لما كان في المعركة يوم عين جالوت قتل جواده ولم يجد أحداً في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب، فترجل، وبقى كذلك واقفاً على الأرض، ثابتاً في محل المعركة وموضع السلطنة من القلب، فلما رآه بعض الأمراء ترجَّل عن فرسة وحلف على السلطان ليركب، فامتنع السلطان وقال: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاءَت الوشاقية، فركب، فلامه بعض الأمراء وقال ياخوند: لم لا ركبتَ فرسَ فلان؟ فلو كان رآك بعض الأمراء لقتلك وهلك الإسلام بسببك. فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله ربٌّ لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان وعدد خلقاً من الملوك، فلم يضيع الله الإسلام.
وكان حين ساق من الديار المصرية كان في خدمته خلق من كبار الأمراء من البحرية وغيرهم، ومعه الملك المنصور صاحب حماة، وجماعة من ابناءِ الملوك، فأرسل إلى صاحب حماة يقول له: لا تعتنى بمدّ سماط في هذه الأيام، وليكن مع الجندى لحمه في سولقه يأكلها، والعجل العجل.
وكان اجتماعه بعدوه كما ذكرنا في العشر الأخير من رمضان، يوم الجمعة، وهذه بشارة عظيمة، فإن وقعة بدر كانت يوم جمعة في شهر رمضان، ولهذا نصر الله تعالى الإسلام نصراً عزيزاً.
وقال أبو شامة: وكان سيف الدين قطز هذا موصوفاً بمواظبة الصلوات، والشجاعة، وتجب شرب الخمر.
الثالث في مدَّة سلطنته: ذكرنا أنه قتل يوم السبت السادس عشر من ذي القعدة بين الغُرابي والصالحية، ودفن بالقصير، وكان قبره يزار، فلما تمكن الظاهر بيبرس في المملكة بعث إلى قبره فغيبةُ عن الناس، وكان لا يعرف بعد ذلك، وكانت مدَّة مملكته أربعة عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً.
وقال الملك المؤيَّد: وكان مدة سلطنته أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً.
وهو الأسد الضارى بيبرس البندقدارى.
ولما وصل بيبرس، وهو والجامعةن الذين قتلوا الملك المظفر المذكور إلى الدهليز، كان عند الدهليز نائب السلطنة فارس الدين أقطاي المستعرب، وهو الذى كان أتابكا لنور الدين على بن الملك المعز أيبك التركمانى بعد الحبلى، فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة بالديار المصرية، فلما وصل بيبرس البندقداري مع الجماعة الذين قتلوه سأله أقطاى المستعرب. وقال: من قتله منكم؟ فقال بيبرس: أنا قتلته. قال أقطاى: يا خوند اجلس في مرتبة السطلنة مكانه، فجلس واستدعيت العساكر للتحليف، فحلفوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز، وهو سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، أعنى سنة ثمان وخمسين وستمائة واستقر بيبرس في السلطنة، وتلقب بالملك القاهر، ثم بعد ذلك غير لقبه، وتلقب بالملك الظاهر، لأنه بلغه أن القاهر لقبٌ غير مبارك.
وكان بيبرس هذا قد سأل من قطز نيابة حلب، فلم يجبه اليها، ليكون ما قدر الله تعالى، فكأن القدر قال له حين سأل نيابة حلب: لا تستعجل فإنك عن قريب تتولى السلطنة، ولما حلف الناس له بالصالحية، ساق في جماعة من أصحابه وسبق العسكر إلى قلعة الجبل، ففتحت له ودخلها، واستقرَّت قدمه في المملكة.
وكانت مصر والقاهرة قد زينتا لقدوم الملك المظفر قطز، فاستمرت الزينة للملك الظاهر بيبرس البندقدارى، فسبحان الله الفعال لما يريد.
وقال ابن كثير: ولما قتل الأمراء السلطان المظفر قطز حارُوا فيما بينهم لمن يملكون عليهم، وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأنه يقتل سريعاً، ثم اتفقت كلمتهم على أن بايعوا الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، ولم يكن من أكابر المقدمين ولكن أرادوا أن يجربوا فيه، ولقبوه الملك القاهر، فقال له الوزير: إن هذا اللقب لم يفلح من تلقب به، فقد تلقب به القاهر بن المعتضد، فلم تطل أيامُه حتى خلع وسمل، وتلقب به القاهر بن صاحب الموصل، فسم فمات.
قلت: لما قتل الأمير بيدرا السلطان الملك الأشرف خليل بن الملك المنصور قلاون على الطرانة، كما يجىء في موضعه، تسلطن وتلقب بالملك القاهر، وضربت رقبته من يومه.
ولما سمع بيبرس بذلك عدل عن القاهر إلى الملك الظاهر.