قال: وقد كانت النصارى بدمشق قد شمخوا بسبب دولة التتار، وتردد إيل سنان وغيره من كبارهم إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى هلاون، وجاء من عنده بفرمان لهم اعتنى بهم، وبوصية في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتقعة، وهم ينادون حولها بارتقاع دينهم واتضاع دين الإسلام، فركب المسلمون من ذلك هم عظيم، فلما هرب التتار من دمشق ليلة الأحد السابع والعشرين من رمضان أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها، وأخربوا كنيسة اليعاقبة، وكنيسة مريم حتى بقيت كوما والحيطان عليهم أمر عظيم اشتفى به بعض الاشتفاء صدور المسلمين، ثم هموا بنهب اليهود، فنهب قليل منهم، ثم كفوا عنهم لأنهم لم يصدر عنهم ماصدر من النصارى.
وقال ابن كثير: وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً، كان مصانعاً للتتار على أموال الناس، يقال له: الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجى، كان خبيث الطوية مشرقياً ممالئاً لهم على أموال المسلمين، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين المماثلين على المسلمين.
وكان هلاون أرسل تقليدا بولاية القضاء بجميع مدائن الشام والموصل وماردين وميافارقين والأكراد وغير ذلك للقاضى كمال الدين عمر بن بندار التفليسى، وقد كانت نائب الحكم بدمشق عن القاضى صدر الدين أحمد بن يحيى بن ابن هبة بن سنى الدولة من مدة خمس عشرة سنة، ووصل التقليد في السادس والعشرين من ربيع الأول، وحين وصل قرىء بالميدان الأخضر، فاستقل بالحكم من دمشق وكان من الفضلاء، فسار القاضيان المعزولان صدر الدين بن سنى الدولة ومحيى الدين بن الزكى إلى خدمة هلاون، إلى البلاد الحلبية، فخدع ابن الزكى لابن سنى الدولة وبذل أموالاً كثيرة وتولي القضاء بدمشق ورجعا فمات ابن سني الدولة ببعلبك، وقدم ابن الزكى على القضاء ومعه تقليد به وخلعة بذهب، فلبسها وجلس في خدمة إبل سنان تحت قبة النسر، وهو النائب الكبير، وبينهما الخاتون زوجة إيل سنان حاسرة عن وجهها، وقرىء التقليد هناك، وحين ذكر اسم هلاون اللعين نثر الذهب والفضة من فوق رؤوس الناس.
وذكر أبو شامة: أنه استحوذ على مدارس كثيرة في مدته هذه القصيرة، فإنه عزل قبل راس الحول، فأخذ العذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقمرية والكلاسة مع المدرستين اللتين كانتا بيده وهما التقوية والعزيزية، وأخذ لولده عيسى تدريس الأمينية ومشيخة الشيوخ، وانتزع من الشمس الكردى الصالحية وسلمها إلى العماد بن العزى، ونزع الشومانية من الفخر النقجوانى وسلمها إلى الكمال بن النجار، ونزع الربوة من الجمال محمد بن اليمنى وسلمها إلى الشهاب محمود بن شرف الدين محمد بن القاضي شرف الدين بن زين القضاة عبد الرحمن ابن سلطان وهو من بنى عمه.
كل هذا مع ما عرف منه من التقصير في حق الفقهاء في المدرستين اللتين كانتا بيده من قديم الزمان وهما الحزيزية والتقوية، وعدم انصافه فيهما وولى ابنه عيسى مشيخة الشيوخ بخوانق الصوفية واستناب أخاه لأمه في القضاء، ومعه من المدارس: الرواحية والشامية البرانية، مع أن شرط واقفها أن لا يجمع المدرس بينها وبين غيرها.
وقال ابن كثير: ولما رجعت المملكة إلى المسلمين سعى القاضى محيى الدين وبذل أموالاً جزيلة ليستمر في القضاء والمدارس التي استولىعليها في مدة هذه الشهور، فلم يستمر إلا قليلا حتى جاء تقليد القضاء لنجم الدين أبي بكر ابن صدر الدين بن سنى الدولة، فقرىء يوم الجمعة بعد الصلاة الحادى والعشرين من ذي القعدة بالشباك الكمالى من مشهد عثمان بجامع دمشق.
لما قرر السلطان الملك المظفر قطز أمور الشام على ما شرحناه سار من دمشق إلى جهة الديار المصرية، وفى نفوس البحرية منه ومن أستاذه قبله من قتلهما الفارس أقطاى واستبداهما بالملك وإلجائهم إلى الهرب والهجاج والتنقل في الفجاج إلى غير ذلك من أنواع الأهوان التي قاسُوها، والمشقات التي لابَسُوها، وإنما انحازوا إليه لما تعذَّر عليهم المقام بالشام، وللتناصر على صيانة الإسلام، لا لأنهم أخلصوا له الولاء، أو رضوا له بالاستيلاء.
وقد ثَبتَ المرعى على دِمَنِ الثرى ... وتبقى خزازاتُ النفوس كماهيا