وقدم إلى هلاون وهو على حلب الشيخ محيي الدين بن الزكى من دمشق، فأقبل عليه وليس خلعه هلاون، وكانت مذهبة، وولاه قضاء الشام، وعاد بن الزكى إلى دمشق ودخلها وعليه الخلعة، وجمع الفقهاء وغيرها من أكابر دمشق، وقرأ عليهم تقليد هلاون، واستمر في القضاء.
ثم رحل هلاون إلى حارم وطلب تسليمها، فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والى قلعة حلب، فأحضره هلاون وسلموها إليه، فغضب هلاون من ذلك وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم وسبى النساء.
ثم رحل هلاون بعد ذلك وعاد إلى الشرق، وأمر عماد الدين القزويني بالرحيل إلى بغداد، فسار إليها، وجعل بحلب مكانه رجلاً أعجمياً، وأمر هلاون بخراب أسوار حلب، فأخرجت كما ذكرنا، وكذلك أمر بخراب أسوار حماة، فأخربت وأحرقت زردخاناتها، وبيعت الكتب التي بدار السلطنة بقعلة حماة بأبخس الأثمان.
وقال النويري: لم تخرب سور حماة لأنه كان بها رجل يقال له إبراهيم بن الإفرنجية ضامن الجهة المفردة، قبذل لخسروشاه جملة كثيرة من المال، وقال: الفرنج منا قريب بحصن الأكراد، ومتى خربت سور المدينة لا يقدر أهلها على المقام بها، فأخذ منه المال ولم يتعرض لخراب سور المدينة.
وكان هلاون قد أمر الملك الأشرف صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً لأنها مدينته.
وأما دمشق فإنهم لما ملكوا المدينة بالآمان لم يتعرضوا إلى قتل ونهب، وعصت عليهم قلعة دمشق، فحاصرها التتار، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، وضايقوا القلعة، وأقاموا عليها المجانيق، ثم تسلموها بالأمان في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة، ونبهوا جميع ما فيها، وجدوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما فيها من المزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلتها.
وقال ابن كثير: أرسل هلاون قبل أن يرحل من حلب جيشاً مع أمير من كبار دولته يقال له كتبغانوين، فوردوا دمشق في أواخر صفر، فأخذوها سريعاً من غير ممانعة، وتلفاهم أكابرها بالرحب والسعة، وقد كتب هلاون معهم فرمان أمان لأهل البلد، فقرىء بالميدان الأخضر، ونودى في البلد بالأمان، فأمن الناس والقلعة ممتنعة، وفى أعاليها المجانيق منصوبة، والحال شديدة، فأحضرت التتار المجانيق على عجل، والخيول تجرها، وهم راكبون على الخيل، وأسلحتهم على الأبقار الكثيرة، فنصبوا المجانيق على القلعة من غربيها وهدموا غيطاناً كثيرة وأخذوا أشجارها، ورموا بها القلعة رمياً متوالياً كالمطر المتدارك، فهدموا كثيراً من أعاليها وشرفاتها وتداعت للسقوط، فأجابهم متوليها في آخر ذلك النار إلى المصالحة، ففتحوها وخربوا كل بدنة فيها وأعالى بروجها، وذلك في المتصف من جمادى الأولى من هذه السنة، وقتلوا المتولى بها بدر الدين بن قزل، ونقيبها كمال الدين بن الصيرفى الحلبي.
وسملوها إلى امير منهم يقال له: إيل سنان، وكان معظماً لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم، فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، لعنهم الله، وذهبت منهم طائفة إلى هلاون بهدايا وتحف، وقدموا منه ومعهم فرمان أمان من جهته، ودخلوا البلد من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون مسجداً إلا رشُّوا عنده خمراً، وقماقمم فيها خمراً يرشون منها على وجوه الناس، ويأمرون كل من يجتازون به في السواق والطرقات أن يقوم لصليبهم، ودخلوا من درب الحجر، فوقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان ورشوا هنالك خمراً، وكذلك على باب مسجد في الحجر الصغير والكبير، واجتازوا في السوق حتى وصلوا إلى درب الريحان أو قريب منه، فتكاثر عليهم المسلمون، فردوهم وعادوا إلى سوق كنيسة مريم، ثم توقف خطيبهم إلى دكته وكان في عطفة السوق هنالك، فذكر في خطبته مدح دين النصارى وذم دين الإسلام وأهله، ثم ولجوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم، وكانت بعد عامرة، ولكن كان هذا سبب خرابها.
وحكى الشيخ قطب الدين في الذيل: أنهم ضربوا بالناقوس بكنيسة مريم، والله أعلم.
قال: وذكروا أنهم دخلوا الجامع بخمر، وكانت من نيتهم الفاسدة إن طالت التتار أن يخربوا كثيراً من المساجد وغيرها، فكفى الله شرهم.