في يَدٍ ساقٍ له رضَاب ... كالشُهْدِ لكن جَنَاهُ أَعْذَبْ
الملك الناصر داود بن الملك المعظم عيسى بن السلطان الملك العادل أبي بكر ابن أيوب.
توفى في هذه السنة بظاهر دمشق في قرية يقال لها البُوَيضاء، ومولده سنة ثلاث وستمائة، وكان عمره نحو ثلاث وخمسين سنة، وقد ذكرنا أحواله وما جرى عليه في السنين الماضية، وكان أصاب الناس في الشام في تلك المدة وباء مات فيه الناصر داود، وخرج الملك الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البُوَيْضاء، وأظهر عليه الحزن والأسف، ونقله ودفنه بالصالحية في تربة والده الملك المعظَّم.
وكان الناصر داود فاضلاً، ناظماً، ناثراً، وقرأ العلوم العقلية عل الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى تلميذ الإمام فخر الدين الرازى، وكان حنفى المذهب مثل والده.
وله أشعار حيدة، فمنها قوله:
عيونٌ عن السِّحْرِ المُبينِ تَبينُ ... لها عند تحريك القلوب سُكُونُ
تَصُولُ ببيض وهى سُودٌ فِرندها ... ذُبُولُ فُتُورٍ والجفونُ جفونُ
إذا ما رأت قلْباً خِلياً من الهَوَى ... تقول له كن مُغْرَماً فيكونُ
وله أيضاً:
طرفى وقلبى قاتلٌ وشهيدٌ ... ودمى على خديك منه شهودُ
أما وحُبِّك لا أضْمرْ سَلْوةً ... عنْ صبوتى ودع الفُؤادَ يبيدُ
مُنِّى بطيفك بَعْد ما منع الكرى ... عن ناظرىَّ البُعْدُ والتَسْهيدُ
ومن العجائب أن قلبك لَمْ يَلنْ ... لي والحديدُ ألاَنَهُ داود
وقال أبو شامة: وكان الملك الناصر داود سلطان دمشق بعد أبليه نحواً من سنة، ثم اقتصر له على الكرك وأعماله، ثم سُلِبَ ذلك كله وصار متنقلا في البلاد موكلا عليه، وتارة في البراري إلى أن مات موكلاً عليه بالبُوَيضاء، وهى قريَةٌ قبلىّ دمشق، كانت تكون لعمه مُجير الدين بن العادل وحمل منها، فصلى عليه عند باب النصر، ودفن بجبل قاسيون عند أبيه بالمقبرة المعظمية بدير مران، وخلف أولاداً كثيرة.
الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.
توفى في شعبان من هذه السنة، عن ثمانين سنة، وقد ملك الموصل نحواً من خمسين سنة.
وكان ذا عقل ودهاءٍ مكرٍ، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه، وزالت الدولة الأتابكية عن الموصل، وقد ذكرنا مسيره إلى هلاون اللعين، فمكث بعدَ مرجعه بالموصل أياما يسيرة، ثم مات ودفن بمدرسته البدرية بالموصل، فتأسَّفَ الناس عليه لحسن سيرته وجودته وعدله.
وقد جمع له الشيخ عز الدين بن الأثير كتابه بالمسمى بالكامل في التاريخ، فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطى لبعض الشعراء ألف دينار وغيرها.
وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل.
وقد كان بدر الدين لؤلؤ أرمنياً اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى بن آقسنقر الأتابكى صاحب الموصل، وكان مليح الصورة فحظى عنده، وتقدَّم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه، ثم أنه أخنى على أولاد أستاذة فقتلهم غيلةً، واحداً بعد واحد، إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقلَّ بالمملكة حينئذ، وصفت له الأمور وراقَتْ.
وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد على رضى الله عند قنديلاً زنته ألف دينار.
وكان قد بلغ من العمر فوق ثمانين سنة، فكأنه شابٌّ حسن الشباب من نضارة وجهه وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه بقضيب الذهب، وكان ذا همَّةٍ عاليةٍ، وداهيةٍ، شديد المكر، بعيد الغَوْر.
وقال بيبرس: واستقرَّ بعده ولده الملك الصالح إسماعيل، وأما ولده علاء الدين على فإنه فارق أخاه وحضر إلى الشام، وكان منهما ما نذكره، إن شاء الله تعالى: بيجْوُ: ويقال له باجُو أيضاً، مقدّم التتار.
هلك في هذه السنة. ويقال: إن هلاون نقم عليه لما بلغه من إضمار الخلاف، وإنه قصد التأخر عنه لما استدعاه، وأراد الإنفراد ببلاد الروم، فلما فرغ هلاون من فتوح بغداد وبلاد العراق دسَّ إليه سُماً، فشربه فمات.
وقيل: إنه كان أسلم قبل موته، ولما احتضر أوصى بأن يغسل ويدفن على عادة المسلمين.