وقال ابن كثير: لما جرّد هؤلاء الأمراء المذكورين إلى غزوة سيس، كان ولد قطلوشاه بأطراف بلاد الروم في ثلاثة آلاف فارس، فأرسل إليهم صاحب سيس، وبذل لهم مالاً جزيلاً، وكان عنده جمع من الفرنج فاجتمعوا هم والتتار في ستة آلاف فارس، فلما بلغ العسكر الحلبي اجتماعهم أشاروا على مقدمهم قشتمر بالرحيل بالغنائم قبل أن يدركهم العدو، فلم يرجع إلى رأيهم وقال: أنا وحدي ألقي هذا الجمع، ففارقه بعض الأمراء في نحو ربع العسكر، وساقوا تلك الليلة كلها فنجوا، وبقي بقية العسكر، فأدركهم التتار ومن انضم إليهم من الفرنج والأرمن، فانهزم العسكر الحلبي من غير قتال، وأسر التتار منهم الأمراء الأربعة المذكورين وجماعة من الجند، وأرسلوهم إلى الأردو، وسلم قشتمر في جماعة ووصل إلى حلب، ثم إن صاحب سيس ندم وخاف العاقبة وكتب إلى نائب حلب يبذل له الطاعة والأموال ويسأل العفو، فكاتب النائب الملك الناصر في ذلك، فأجيب إلى سؤاله، ثم جرى ما ذكرناه الآن.
قال ابن كثير: وفيها توجهت العساكر الشامية إلى جبال الكسروان، وكان أهلها قد طغوا واشتدت أذيتهم، وتطرقوا إلى أذى العسكر عند انهزامه في سنة تسع وتسعين وستمائة، وتراخى الأمر وحصل الإغفال. فزاد طغيانهم وخرجوا عن الطاعة، فتوجه إليهم الشريف زين الدين بن عدنان، ثم توجه بعده تقي الدين بن تيمية، وقراقوش الظاهري، ووعظوهم فلم يفد فيهم، فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل مملكة من المماليك الشمالية، فتوجه أقوش الأفرم من دمشق يوم الإثنين ثاني المحرم بالعساكر الشامية، وصحبته من الرجالة نحو خمسين ألفاً على ما قيل، وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرذيين، وطلع إليهم سيف الدين أسندمر النائب بطرابلس من أصعب المسالك، واجتمعت عليهم العساكر من الرجال والتراكمين الأبطال، فأبادوهم قتلاً وتشتيتاً في البلاد، وسُبيت نساؤهم، وبيعت أولادهم، واستخدم أسندمر المذكور منهم جماعة بطرابلس، وانقطع أثرهم من الجبال، وعاد العسكر إلى دمشق، وقُتل في هذه الوقعة الأوحد ابن الملك الزاهر، أحد أمراء دمشق، وعاد الناس إلى دمشق في رابع صفر.
قال بيبرس في تاريخه: وفيها هلك قطلوشاه نائب قازان، وكان قد استقر به خربندا على قاعدته، وجرّده إلى بلاد كيلان لقتال الأكراد والغارة على تلك البلاد، فسار إليهم، وقد حشدوا واستعدوا، فخرجوا للقائه، واقتتلوا معه، فكانت لهم النصرة وعليه الكسرة، فعلت كلمتهم لأنها كلمة التوحيد، وتبدّد التتار أي تبديد، وقتل قطلوشاه في الوقعة.
قلت: وكان السبب في تجريد خربندا نائبه قطلوشاه إلى بلاد كيلان ما بلغه عنهم أنهم على مذهب يخالف مذهب المسلمين، فقال: لابد لي أن أبعث إلى كيلان وأطلب أكابرهم وأجمع بينهم وبين فقهاء تبريز، فيبحثون معهم في عقيدتهم، فإن لم يظهر لها صحة ضربت أعناقهم، فكتب إلى ملوك كيلان، وكانوا سبعة عشر ملكاً، وكبيرهم الذي يرجعون إليه يقال له: نوبرشاه، فلما وصل إليه رسول خربندا وناوله الكتاب وقرأه. قال: من أين لخربندا معرفة بهذا الأمر؟ فسألوا الرسول عن ذلك. فقال: قد بلغ الملك من الشيخ براق، وهو شيخ يعتقد فيه الملك اعتقاداً عظيماً بأنكم على مذهب شخص من أهل دمشق يقال له: ابن تيمية، وقد وقع عليه الإنكار من المسلمين، وقد ذكر عنكم أنكم مجسّمون، وأن مذهبكم بطال، وما أنتم على شيء من الدين.
ولما سمعوا بذلك جمعوا فقهاءهم وأخبروهم بهذا الخبر. فقالوا: أيّ من راح منا أو منكم إلى خربندا يقتل بلا خلاف لأن فقهاءهم لا يرجعون إلينا، فأيّ شيء يذكر لهم يردّونه، ثم يفتون في إباحة أرواحنا وأموالنا. فقال نوبرشاه: ما الحيلة في ذلك؟ فقالوا: نحن نكتب عقيدتنا ونسيّرها إليهم ونقول: هذه عقيدتنا ما نعتقد بشيء غيرها. فقال لهم نوبرشاه: افعلوا ذلك.