ومنها أن الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس كتب إلى السلطان والأمراء أن أميراً من أمراء طرابلس يقال له سيف الدين بالوج الحسامي - من مماليك لاجين - أساء عليه الأدب في دار السلطنة بحضور الأمراء كلهم، وأخرق حرمة السلطنة، فالمسؤول تأديبه، فكتب السلطان بأن يطلبه قدام الأمراء ويأخذ سيفه ويحبسه، فلما وصل إليه الكتاب طلبه وأخذ سيفه وأهانه وحبسه.
وكان السبب في ذلك أن شخصاً من السمرة كان يتحدث في ديوان النائب ويتجر له في سائر الأصناف، فطغى بسبب ذلك حتى صار يركب الحجورة العربية بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، ولم يدع كلاماً لأحد في طرابلس حتى صار يحكم في الجيش، وحصّل أموالاً عظيمة له وللنائب، وتألم منه أهل طرابلس ألماً عظيماً، ولم يخلّوا أحداً من الأمراء حتى شكوه إليه، ولم يكن أحد منهم يجترىء أن يبلغ ما يفعله للنائب إلى أن تزايد أمره وفشى طغيانه، ثم أن بالوج المذكور اتفق مع الأمراء على أن يتحدث مع النائب بسبب ذلك بشرط أن يساعدوه عند فتح الكلام، فاتفقوا على ذلك، ولما حضروا يوم الموكب للخدمة شرع الأمير بالوج وفتح الكلام، وقال: يا خوند أهل طرابلس جميعهم يشكون من هذا السامري، وعندهم ألم كثير وضرر عظيم بسببه. فالتفت إليه النائب كالمغضب وقال: يكذب أهل طرابلس فإنهم مراجفون مناجيس، وأنت أيضاً بقيت مثلهم، وكان بالوج شرس الأخلاق، فقال: يا أمير أقول لك إن هؤلاء ناس مسلمون يشتكون من هذا الخنزير الكافر وتقول لي أنت منهم، يعني تقول لي تكذب. قال: نعم، فلما سمع بالوج هذا الكلام نهض قائماً، وقال: والله لأضربن عنق هذا السامريّ حيث وجدته، فالسلطان ما يشنقني لأجل سامريّ خبيث، ثم اتفق ما ذكرناه من النائب في حقه، فتزايد السامريّ على الناس إلى أن وقع منه كلام في يوم من الأيام يوجب قتله، فشهدت جماعة بذلك من العدول وغيرهم، وكتبوا بذلك محضراً وأرسلوه إلى قاضي المالكية بدمشق، فأثبته القاضي، ثم اجتمع بالقاضي الشافعي والحنفي، وتوجهوا إلى ملك الأمراء جمال الدين الأفرم وعرّفوه بالقضية، فكتب إلى الأمراء بمصر وعرّفهم بجميع ما وقع، وعرّف أيضاً أن هذا الرجل خصيص بنائب طرابلس، فقام الأمير ركن الدين في ذلك وكتب إلى اسندمر نائب طرابلس أن يرسل هذا السامري إلى دمشق ليتولى أمره القاضي المالكي، ويفعل فيه ما يجب عليه بالشرع، ويطلق سيف الدين بالوج عن الحبس، فلما وصل الكتاب إلى أسندمر، وفيه الإنكار عليه بسبب ما بلغ الأمراء من أمر السامريّ، وعلم أنه لا دافع عنه، وتصوّر أن السامريّ إذ وصل إلى دمشق يحدّث بما كان يفعله هو، أراد به أسندمر نفسه، فيقع بسبب ذلك في أمر أعظم مما كان، فطلب سيف الدين بالوج، واعتذر إليه وقال: ما كنت أعرف حال هذا الملعون وما كان يفعله حتى ظهر لي في هذا الوقت، وخلع عليه وطيب خاطره، ثم طلب السامريّ بين يديه وأهانه وقيده، وحعله في زنجير، وسلّمه إلى البريديّ، وسيّر معه بعض مماليكه ووصّى بهم بأنكم إذا وصلتم إلى حمص وركبتم منها في الليل اضربوا رقبة السامري، وخذوا معكم رأسه، فإذا وصلتم إلى الشام عرفوا نائب الشام بأنا لما نزلنا في حمص جاءت علينا جماعة في الليل وضربوا رقبته، وهم من أهل طرابلس، فإنهم اتبعونا من طرابلس لما خرجنا منها، فما وقعت لهم فرصة في قتله إلا في حمص، وكانوا أرادوا أن يفعلوا هذا وهم في طرابلس ولكن ما اتفق لهم ذلك، وذلك أن الأمير سيف الدين بالوج لما كان في الحبس، وأخذ بعض الناس هذا السامري إلى أن ركب في ليلة من مكان كان يتنزه فيه، فوقفوا له في طريقه، فضربه بعضهم بالسيف على أن يطيّر رقبته، فلم تجيء الضربة إلاّ على شاشه فأرمته من رأسه، ووقع السامريّ على الأرض مذعوراً، فهرب أولئك القوم ونجا السامري، ولما بلغ ذلك نائب طرابلس قال: هذا شغل بالوج، سلّط عليه هؤلاء القوم، ولما سمع نائب الشام بذلك طلب القضاة وأخبرهم بما جرى على السامري في الطريق وأراهم رأسه، فقالوا: قد قتله الله وكفى المسلمين شرّه.