وكان قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك حكايات عجيبة، وكان كثير التسري والتمتع، وكان مهوّساً بعلم الكيمياء، معتقداً صحتها، وكان له عدة أولاد بأسماء الصحابة العشرة، تفقه بأبيه وبالشيخ عزّ الدين بن عبد السلام وغيرهما، واشتهر اسمه في حياة مشايخه، وتخرج به أئمة، وكان عارفاً بمذهبي مالك والشافعي، كان مالكياً أولاً، ثم صار شافعياً.
وقال ابن كثير: سمع الحديث الكثير، ورحل وخرج، وصنّف فيه إسناداً ومتنا بمصنفات عديدة مفيدة فريدة: وانتهت إليه رئاسة العلم في زمانه، وفاق جميع أقرانه، ودرس في أماكن كبار كثيرة، ثم ولي قضاء مصر سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية.
وقال بيبرس: وكانت مدة ولايته ست سنين وسبعة أشهر وأياماً.
وقال النويري: وكان نشوه بمدينة قوص، وتفقه على أبيه، وعزل نفسه عن القضاء، وسئل في العود: فامتنع، فألحّ عليه، فعاد، وهو الذي نقل خلع القضاة من الحرير إلى الصوف، وكان يخلع على القضاة قبله الحرير الكنجي، وتولى بعده القضاء بدر الدين بن جماعة.
وقال صاحب النزهة: وصلى عليه السلطان وسائر الأمراء والأكابر. وهو آخر من ولى القضاء من المجتهدين الذين لم ير في دولة الترك من ولي منصب القضاء مثله.
قال: ويذكر له نكتة غريبةً، وهي: أنه اتفق أن شخصاً أحضر إليه فتياً فكتب عليها، فلما فارقه تذكر أنه كتب فيها ما لا يجوز، فقلق لذلك قلقاً عظيماً ولم يحكم ذلك النهار. فلما كان بكرة اليوم الثاني حضر الرجل ومعه الفتوى، وسأل الشيخ أن يكتب له عليها بخط مفسّر وذكر أنه من حين خرج من عند الشيخ بالفتوى عرضها على الناس، فكل من أخذها لم يحسن قراءتها لكون حروفها مخبطةً ولم يظهر منها شيء ولا حرف واحد. فأخذها فكتب عليها بما يجوز.
وروى عنه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس شيئاً كثيراً من لطافته وكرمه واحتمال نفسه، ومن أشعاره الرائقة، ومن ذلك قوله:
أفكّر في حالي وقرب منيّتي ... وسيري حثيثاً في مصيري إلى القبر
فينشىء لي فكري سحائب للأسى ... تسحّ هموماً دونها وابل القطر
إلى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبت به مذ كنت في مبدء العمر
تروح وتغدو للمنايا فجائع ... تكدّره والموت خاتمة الأمر
وله:
سحاب فكري لا يزال هامياً ... ولبل همي لا أراه راحلا
قد أتعبتني فكرتي وهمّتي ... فليتني كنت مهيناً جاهلا
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن نباتة، أنشدني الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه:
أتعبت نفسك بين ذلّة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل
وأضعت عمرك لا خلاعة ماجنٍ ... حصلت فيه ولا وقار مبجّل
وتركت حظ النفس في الدنيا ... وفي الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل
وله دو بيت:
الجسم تذيبه حقوق الخدمة ... والقلب عذابه علو الهمّة
والعمر بذاك ينقضي في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمة
ومن العجب أن هذين البيتين حفظهما الشيخ تاج الدين أحمد أخو الشيخ تقي الدين، فاتفق له أنه قال: بينا أنا وقت الهاجرة بمسجد الجواري بالحسينية؛ إذ غلبتني عيناي فنمت ورأيت والدي الشيخ مجد الدين، فسلم عليّ وسألني عن حالي فقلت يا سيدي بخير. فقال: كيف محمد أخوك؟ - يعني الشيخ تقي الدين - فقلت: بخير، الساعة كنت عنده وأنشدني دو بيت، وأنشدته البيتين المذكورين. فقال: سلم عليه وقل:
الروح إلى محلها قد تاقت ... والنفس لها مع جسمها قد عاقت
والقلب معذّب على جمعهم ... والصبر قضى وحيلتي قد ضاقت
فانتبه تاج الدين، وقد حفظ الدو بيت المذكور.
وله أيضاً:
يا معرضاً عني ولست بمعرض ... يا ناقضاً عهدي ولست بناقض
أتعبتني بخلائق لك لم تفدفيها وقد جمحترياضة رائض
أرضيت أن تختار رفضي مذهباً ... فيشيع للأعداء أنك رافضي
وقال شهاب الدين بن الكويك التاجر الكارمي: اجتمعت به مرة فرأيته في ضرورة شديدة. فقلت له يا سيدي ما تكتب ورقة لصاحب اليمن وأنا أقضي فيها الشغل. فكتب ورقة لطيفة فيها: