قد ذكرنا عند نزولهم من الجبل اتبعهم العسكر وجردوا خلفهم الأمراء وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وكذلك العرب قتلوا منهم، ومات أكثرهم من العطش والجوع، والذي سلم منهم أو خرج قُتل في الطريق، وقتلت أهل المدن والضياع منهم خلقاً عظيماً، وما وصل قطلوشاه إلى الفرات إلا في نفر يسير، ولم يعد الفرات سالماً إلاّ مولاي فإنه ما عدم له إلاّ نفر يسير من الذين انقطعوا منه فإنه خرج أولاً وذهب كما ذكرنا، ولم يقابل العسكر، وبلغ الخبر إلى غازان، وإلى همدان، ووقعت الضجات، واستقبلهم أهل البلاد بالبكاء والعويل، وخرجت أهل تبريز وغيرها، وركبت النساء والخواتين لسماع أخبارهم، لينظرن من قتل ومن بقي، ونظر الخلائق إلى عسكر مُبدد ما بين ماش وراكب، ومحمول ومجروح، ونادب على ولده وعلى أخيه.
قال الراوي: وحكى لي من حضرهم من تجار تبريز أنه أقام مدة شهرين لم يسمع غير بكاء ونياحة وتعديد بلسان المغل، ولما وُصف لقازان كيفية انكسارهم، وما جرى عليهم، خرج من منخريه دم كثير إلى أن كاد يقتله، ودخل إلى خركاته، ولم يجتمع بأحد من الأمراء، ولا من الخواتين إلى أن أخبروا له أنّ مولاي وصل، وحكى له طرفاً من أمره، وأقام إلى أن وصل قطلوشاه وعسكره، وملك مسامعه من البكاء والتعديد، وخرجت نساء المغل وأهل العسكر لملتقى رجالهم وأولادهم فلم يجدوا من كل عشرة واحداً، فركب الأُردو عن بكرة أبيهم، فهنّى بعضهم باللقاء، وقيل لبعضهم: خلفّناه في ماردين أو غيرها. وقيل لبعضهم: جُرح. وقيل لبعضهم: أُسر، ومثل هذا الكلام.
فلما علم غازان بذلك خرج وجلس على التخت، وطلب أمراء التوامين الذين كانوا قد تأخروا عنده، والخواتين، فأجلسهم على العادة، ورسم بحضور قطلوشاه وجوبان وسوتاي، ومن كان معهم من الأمراء، وأوقفهم بين يديه موقف الذلّ، وقال للحاجب: قل لهم كيف خالفتم يسق السلطان حتى كسرتم عسكره؟ فقالت الأمراء: نحن كنا مع نائبك ويسقك أن لانخالفه فيما يفعله. فقال لقطلوشاه: كيف خالفت يسقي ولاقيت الملك الناصر صاحب مصر وعسكره. فردّ عليه الجواب بما اتفق له من سوقه خلف عسكر الشام وكيف أدركهم وكسرهم، وأن سلطان مصر وصل في ذلك الوقت على غفلة منه، فلم يقبل له عذراً، ورسم أن يقيد بالكلاليب، فقامت الأمراء والخواتين وشفعوا فيه، وقالوا له: إن له على الخان خدمةً كبيرةً، وأنه اجتهد غاية الاجتهاد. ولكن أتاه الأمر بغير ما حسبه، وما زالوا به وهم واقفون بين يديه، والخواتين قد كشفن رءوسهن إلى أن عفي عنه، ورسم أن يوقفوه على بعد من بين يديه وهو ممسوك بين الحجاب، ويقوم كل من حضر بين يدي الخان فيخرج إليه ويتفل في وجهه، وهذه حدّ الإهانة عندهم للكبير إذا لم يقتلوه، ثم رسم أن يخرج مع جماعته وعسكر آخر إلى كيلان ولا يوريه وجهه إلى أن يملكها، وكان من أمره ما سنذكره إن شاء الله، وطلب بعدها مولاي ورماه وضربه تسع عصا وقال: كنت متّ معهم. وأهانه الإهانة البالغة.
وفيها: كان النيل أوفى على ستة عشر ذراعاً، وكان كسر الخليج خامس المحرّم.
وقال صاحب النزهة: الصحيح أن النيل غلّق ثمانية عشر ذراعاً.
وفيها: حج بالناس سيف الدين برلغي.
الشيخ الإمام شيخ الإسلام بقية المجتهدين قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الشيخ ال صالح بقية السلف مجد الدين أبي الحسن علي بن وهب بن مطيع ابن أبي الطاعة القشيري المصري، المعروف بابن دقيق العيد.
ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرون وستمائة بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من صفر ببستان عند باب اللوق، وصلي عليه تحت القلعة، وحضر جنازته: نائب السلطان، والأمراء، وأعيان الدولة، وخلق كثير من الناس، ودفن بالقرافة.
وكان أجل من بقي من علماء المسلمين علماء وديانة وعملاً، وكان من علماء الحديث، وكان إماماً متقناً، متفنناً، أصولياً، فقيهاً، أديباً، نحوياً، شاعراً، ناثراً، مجتهداً، وافر العقل، كثير السكينة، تام الورع، شديد التديّن، مديم السهر، مكباً على المطالعة والجمع، قلّ أن ترى العيون مثله.