وقال صاحب النزهة أيضاً: وكانت الأمراء اجتمعوا عند السلطان قبل النفقة وتشاوروا أن يؤخذ من سائر التجار والسّوقة وسائر من يتسبب بمصر والقاهرة عن كل رأس دينار، وطلبوا مجد الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة وقالوا له: انزل وتحدث مع القضاة في ذلك وخذ لنا الفتوى منهم. فقال لهم مجد الدين: إن عندي فتوى بخط الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لما خرج الملك المظفر قطز إلى ملتقى نائب هلاون وهو كتبغا نوين لما سيره إلى أخذ مصر، فتلاقى معه على عين جالوت كما ذكرناه مفصلاً، وأنه لم يجد من المال ما يكفي نفقة العساكر وقصدوا أخذ المال من العامة استفتوا الشيخ عز الدين في هذا فأفتى لهم بأخذ دينار من كل أحد، وهذه الفتوى عندي، فأحضرها عندهم وقال له الأمير سلار: اكتب صورة الاستفتاء وانزل بها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد قاضي القضاة حتى يكتب عليها بخطه، فكتب مجد الدين صورة الاستفتاء ونزل بها إلى قاضي القضاة ومعه شخص من الحجاب، وتحدثوا مع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وناولوه صورة الاستفتاء، فأخذها وتأمل ما فيها، ثم هز رأسه وقال يا فقيه: ما القصد في ذلك؟ فقال: يا سيدي القصد أن تكتب على هذا لتطيّب خواطر الناس بالعطاء. قال: فرماها من يده وقال: لا حاجة للفتوى، وما ثم مانع إذا أراد ولاة الأمر بشيء قبل الناس، فخرج المحتسب والحاجب من عنده على هذا، وجاءوا إلى الأمراء وعّرفوهم بذلك. فقال الأمير سلار: ما بقي يمكن الكلام في ما قصدناه دون أن نجتمع بالقاضي ونعرفه بالأمر ونسأله هل هذا جائز أم لا؟ فإذا امتنع أخرجنا له فتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ففي بكرة النهار انزلوا إليه، وسلموا عليه واسألوه الإجتماع بنا لالتماس بركته، فلما أصبحوا نزلوا إليه وبلّغوه الرسالة، فقام وركب وجاء عند الأمراء، والكل حاضرون عند الأمير سلار، فلما رأوه قاموا كلهم وتلقوه من أسفل الإيوان، وأخذ السلار بيمينه والأمير بيبرس بشماله إلى أن أجلساه بينهما، وبقيت الأمراء جلسوا بين يديه وتأنّسوا به حتى فتحوا له باب النفقات وقلة الحواصل في بيت المال وبينوا له الضرورات، ثم ذكروا له أمر الفتوى. فقال الشيخ: أيها الأمراء ما المانع لما تفعلوه إذا رسمتم بشيء ولا ثمة أحد يخالف. وقال الأمير سلار: يا سيدي نريد أن يكون معنا فتوى حتى لا نقع في أمر غير جائز، فيحصل علينا الإثم. فقال الشيخ: أما الفتوى فما يمكن أن أكتبها في مثل هذا. فقال له مجد الدين ابن الخشاب المحتسب: يا سيدي هذا خط الشيخ عز الدين بن عبد السلام كتبها في أيام الملك مظفر قطز، فنظر إليه وتبسم وقال: يا فقيه تعرف كيف أفتى الشيخ عز الدين في ذلك الوقت؟ قال: لا. فقال لما سألوه الفتوى، قال لهم: إن الفتوى في هذا لها شروط إن فعلتموها صحّت الفتوى. فقالوا: ما هي؟ فقال: أن يتقدم كل أمير منكم ويحلف بالله أنه لا يملك فضة ولا ذهباً ولا لزوجته وأولاده مصاغ ولا غيره، فلما سمعوا هذا من الشيخ قام كل منهم وأحضر من موجوده وموجود أهله من حليّ وغيره، ثم حلف كل واحد منهم أنه لا يملك غير ذلك، فعند ذلك كتب لهم هذه الفتوى، ويا فقيه أما أنا فإنه يبلغني أن كل أمير يجهّز بنته بأنواع اللؤلؤ والفصوص، ويعمل بكالى فضة لبيت الماء، وقباقيب مكللة بأصناف الجواهر، وتريد مني أن أكتب فتوى على ما لا يحل، ثم قام ناهضاً وخرج، وقد أفحم كل واحد منهم عن الجواب.
وكان الشيخ قصد بهذا تسميع الأمير سلار حيث جهز بنته لما زوجها من أمير موسى ابن أستاذه الملك الصالح، والأمير بيبرس حيث جهز ابنته لما زوجها من بُرلغى قريب السلطان، وكان كل منهما قد جهز بنته بما لا يوصف ولا يضبط.