ثم قصدوا الرحيل، واجتمع الأمراء البرجية، وقالوا لبيبرس نحن ما نرحل حتى نأخذ ما بقى من غرمائنا من المماليك السلطانية، وعرفوا بيبرس أن الأمير سلار ربما كانت له يد فيما اتفق، فاتهموه، فبلغ ذلك الأمير سلار فخاف في نفسه وقال: إن لم أدارهم في ذلك قامت الفتنة. ولما تكلم معه الأمير بيبرس في أمر المماليك، وأنه ما نرحل حتى ينجز الأمر معهم وافقه على ذلك، ثم اجتمعوا بالأمير جوكندار وقالوا له: إن من المماليك السلطانية من يرضى الفتنة، ومنهم من كانوا وافقوا الأويراتية، فرأى الجوكندار أن مخالفتهم في ذلك الوقت تؤدى إلى فساد كبير، فطاوعهم على ما قالوا، واجتمعوا ودخلوا على السلطان وقالوا: إن ههنا صبيانا من المماليك يقصدون الفتن بيننا وينقلون الكلام الفاسد، ونريد أن نطمئن من جهتهم في السفرة، فقال لهم السلطان: ما الذي يفعل بهم؟ فقالوا: يرسلهم مولانا السلطان إلى الكرك فيقيمون هناك إلى أن نعود من السفر فنأخذهم إلى مصر معنا، فإذا دخلنا مصر يفعل السلطان فيهم بما يرى، فأجاب إليهم السلطان، فأمر عند ذلك بطلب جماعة فأحضروهم وسيروهم إلى الكرك صحبة النقباء ورسم السلطان بحبسهم هناك.
ثم بعد ذلك رحل السلطان بعساكره من تل العجول إلى قريتا وضربوا الدهليز هناك، وأمروا بالإقامة هناك إلى أن يكشفوا أخبار العدو من النواب.
واتفق في تلك المنزله أمر غريب من مجىء سيل عظيم من رءوس الجبال في ضحوة النهار على غفلة فأخذ من الجمال والحيل والخيم والأثقال شيئا كثيرا، فوقعت ضجة عظيمة في العسكر، ومن لطف الله تعالى أنه كان من فرد جانب، فاستمر ذلك إلى وقت العصر من ذلك اليوم. وانفسد حال جماعة كبيرة من العسكر، ومنهم من أصبح فقيرا لا يملك شيئا، فتطيرت الناس بذلك وقالوا: لا يحصل خير في هذه السفرة.
قال صاحب النزهة: واتفقت بعد ذلك نكتة غريبة وهي أنه كان رجل مشهور بالصلاح والمكاشفات، وقد كان وقعت منه أمور غريبة في نوبة الشجاعي وكتبغا قبل وقوع أمرهما، وكان لا يتكلم مع الناس، ولا يأخذ شيئا من أحد، وأكثر اجتماعه كان مع الأمير سلاح، ولكنه ما كان يتكلم معه، فإذا أخذ منه شيئا كان يفرقه على ذوى الحاجات، وكانت عادته أنه إذا ظهر أمر مما قدره الله تعالى من الخير والشر كان قبل وقوعه يلبس شيئا يناسب ذلك الأمر، وكان يعرف بالشيخ الحبشي، وكثيرا ما كان يمشي في الأسواق وعلى رأسه كلوتاه كشف.
قال: ورأيته في ذلك اليوم حين وقع السيل جالسا خلف دهليز السلطان، ثم مشى ومشيت معه إلى قريب المطبخ السلطاني، فجلس في مكان يرمى فيه العظام التي تفضل من السماط، فصار يأخذ العظم ويمشمشه، ثم ينظر إلى السماء ويهز رأسه ويقول: والله قربوا وأشار بيده إلى السماء، ثم أشار إلينا وقال: أبصروا أبصروا وقد جاءوا، فنظرنا إلى السماء، ولا ترى السماء فكأنها قد سترت بالغمام من الجراد، فاستد ما بين السماء والأرض، حتى اشتغل بالنظر إلى ذلك جميع الناس، ووقع الصياح في الوطاق، وخرج السلطان وسائر الأمراء من الخيم ينظرون إليه، ويتعجبون من ذلك ومن كثرته.
فحكى شخص هناك أنه لما كان صغير السن شاهد في بلاد الخطا جرادا مثل هذا، وإنه كان هناك رجل كبير السن أخبر أن هذا الجراد ما دخل على مكان فيه عسكر إلا وقد طرقهم أعداؤهم، ويحصل بذلك خذلان وينتصر أعداؤهم عليهم، فاشتاع ذلك الكلام بين العسكر فلم يبق أحد إلا وقد جزم بحضور العدو، وأن المسلمين ينخذلون وهذه إشارته قد لاحت.
ثم شرعت الأمراء في تفسير البريدية إلى نائب حلب ليطالعهم بالأخبار، ثم اجتمعت آراؤهم على الرحيل إلى دمشق، فاجتمعت جماعة من مقدمي الحلقة وجندها إلى الأمير جمال الدين قتال السبع وأكابر الأمراء وعرفوهم ضعف حال الجند وقلة نفقتهم، وأن هذا السيل قد أضر ببعضهم وأخذ أموالهم، فاتفقت الأمراء على الكلام مع الأمير بيبرس والأمير سلار في أمرهم، فلما اجتمعوا عرفوهم ضرر الجند وشكواهم فقالوا: حتى نصل إلى دمشق وننفق فيهم، ورسموا بالرحيل من يومهم.