والتفت جماعة منهم على السلطان، ثم رأى سلار أن هذا الأمر ما سينفصل إلا عن سفك دم كثيرة، وكان صاحب عقل وتدبير حسن، فسير من جهته أحد الحجاب وبعض المماليك إلى بكتمر الجوكندار الذي هو أمير جندار يقول له: ما هذه الفتنة التي قصدتم إثارتها؟ وكيف يحل لمسلم في هذا الوقت؟ ونحن جئنا لدفع العدو، وحركنا أنفسنا وأموالنا للذب عن الإسلام وعن المسلمين، وقد بلغنا أن بعض مماليك السلطان اتفقوا مع الأويراتية على قتلنا، وسفك الدماء بين المسلمين، فإن السلطان وأنتم أشرتهم عليهم بهذا الرأي، ولكن الله عز وجل، بمنه وكرمه، قد دفع عنا ذلك، فإن كان هذا بمشورتكم فنحن مماليك السلطان، ومماليك والده الشهيد، فنحن نكون فداء للإسلام، وإن كان ما عندكم من ذلك علم فسيروا إلينا غرماءنا فنجازى الذين أرادوا قتلنا وقيام هذه الفتنة.

فلما وصل الذين أرسلهم سلار إلى السلطان، وبلغوه ما ذكر سلار، بكى السلطان، وحلف بالله أن ما عنده مما ذكروه خبر، وكذلك الأمير بكتمر حلف، وأنهم لما رأوا السيوف وقد وقعت اعتقدوا أنهم يريدون قتل السلطان ليسلطنوا أحدا منهم، واعتذروا اعتذارا كثيرا، وقالوا لهم: إن الذي قلتم حق، فإن كان يحصل لكم تشويش من السلطان ومن مماليكه، فها أنا آخذهم وأروح بهم إلى الكرك، وهي قريبة من هاهنا، وهو أنى أسير معهم فأقيم أنا وهو ومماليكه على الكرك، واحكموا أنتم بكل ما تحبون وتختارون.

فلما سمعوا ذلك خرجوا من عندهم، وأتوا إلى سلار والأمراء الذين عنده، وبلغوهم الرسالة، فصعب ذلك عليهم، وثارت نفوس البرجية، وأرادوا أن يركبوا على الأمير بكتمر فقال الأمير سلار: ما هذه مصلحة، وأنتم تعلموا برأي أمير سلاح، هو شاليش العساكر وأتابكها، وهو قدامنا بمرحلة، وأما إذا فعلتم شيئا بغير مشورته تكون حجة علينا، وقد علمتم ما اتفق له مع كرجى وطقجى عند مشورته، والمصلحة أن نعرفه جميع ما اتفق عليه، ونستشيره فلما نعمله، فإنه أتابك العساكر، وكبير الدولة، والناس يرجعون إلى رأيه.

فسيروا إليه أمير حاجب، وعرفوه كل ما وقع، وأن هذا الأمر كان باتفاق من السلطان مع مماليكه وبكتمر أمير جندار، فلما سمع كلامهم قال: إن عرف الأمراء أن هذا الحديث أنا ما أعرفه. فإني نازل عنكم ببعيد، والذي أقوله: إن دم المسلمين يتعلق بابن أستاذهم، وما أعرف غير هذا الكلام، ثم قام وخرج من عنده الحاجب. وعرف الأمراء ما قاله الأمير سلاح، بعد ذلك قال الأمير سلار: ما بقى إلا أن نلاطف أمرنا مع السلطان، وينفصل الأمر على خير.

ثم طلع الأمراء الكبار، ودخلوا على السلطان، وأصلحوا بين أمير جندار وبين الأمراء، وقبلوا الأرض بين يدي السلطان، واجتمع رأيهم على طلب الأويراتية، والكشف عن أمرهم، ومن كان السبب لقيام هذه الفتنة، فمسكوا جماعة منهم، وعاقبوهم، فاعترفوا أن الاتفاق وقع بينهم على الهجوم على الأمير ركن الدين بيبرس والأمير سلار وقتلهما، وقيام دولة الملك العادل كتبغا، وأخذ ثأر من قتل من أمرائهم، وأن المحرك لذلك برنطيه، وألوص ورأس المشورة في ذلك قطلوبرس العادلي، وسموا جماعة كثيرة من العادلية.

فاتفق رأي الأمراء على أن يستفتوا في أمرهم، فأفتوا بقتل الجميع لقوله تعالى " والفتنة أشد من القتل " ... فلما أصبحوا نصبت لهم الأخشاب، وشنق منهم نحو خمسين نفرا من أكابرهم، وصلبوهم صلبا بشيعا بكلوتاتهم وشاشاتهم، ونادى عليهم المشاعلية: هذا جزاء من يقصد إقامة الفتنة بين المسلمين ويتجاسر على الملوك.

وطلب علاء الدين قطلوبرس العادلي فلم يجدوه، فنودى في سائر الوطاق أن من أخفاه شنق.

وكان قطلوبرس تلك الليلة قد جهز أمره الجميع، وكان عزمه أن الأمر الذي عزم عليه إن جاء على وفق مراده ينشر سنجقه ويتظاهر بالركوب، وإن كان بخلاف ذلك ينجو بنفسه، فلما تحقق أن الأمر انقلب عليه خرج مختفيا من أصحابه، واستصحب معه ما يعز عليه من المال، فجاء إلى غزة واختفى بها عند بعض أصحابه.

وما علموا خبره إلا بعد يومين، وأمروا بنهب وطاقه، وجميع ماله من الدواب، وتركوا المصلوبين ثلاثة أيام، وأنزلوهم في اليوم الرابع، فحصل بسبب ذلك بكاء وتألم، وجافت الأرض من روائح أجسادهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015