وكان القاضي يعرف محبة السلطان له، فقال له: يا خوند أنا أروح إليه وأسمع ما يقول. فسلم ودخل عليه، وجعل يسأله عن حاله، فقال له: ما لي حاجة بالنيابة، ولا بالإمرية، وأنا أريد أعمل فقيرا، وتحدث في هذا الباب كثيرا، وفهم القاضي منه أنه يريد أن يسمع كلامه في كل ما في يده من مسك ناس وعمل آخرين، وإبعادهم عنه.
فلما فهم القاضي مقصوده علم أنه متى أشار على السلطان بشيء لا يرجع فيه إليه، وأنه لا يرجع إلا لكلام منكوتمر.
فدخل عليه، وعرفه ما قاله منكوتمر، وما قصده، فلم ينكر عليه شيئا، بل سير إليه وطلبه، وطيب خاطره، وقال له: افعل كل ما تختار، وأنه بعد أيام يمسك طقجى، وبعده بقليل يمسك كرجى، أو نرسله إلى نيابة موضع.
وفي تلك الأيام وصل قاصد للأمير قفجق في خفية واجتمع بطقجى وكرجى، وأعطاهما الملطفات التي معه، ... ... وأخبرهم برواح الأمراء إلى قازان، وكيف خرج قفجق من دمشق، وتولى جاغان مكانه، وأنهم يعرفوا أنكم إما أنكم توقعوا القتل في السلطان ومنكوتمر، وإما تعرفوهم فيهاجرون، وذلك حتى يعرفوا حالهم.
فلما سمع طقجى وكرجى هذا من القاصد اجتمعا مع بيبرس وسلار وعبد الله السلحدار ... ... يوافقهم على ما ... ...، وأرسلوا إليهم بأنهم يفعلون ما أشاروا به، ثم شرعوا في تدبير قتل السلطان.
فلما كانت الليلة التي يسفر صباحها عن يوم الجمعة الحادي عشر ربيع الآخر طلع في هذه الليلة نجم في السماء يسطع نوره، ويأخذ بالبصر وله ذنب يظن الرائى أنه يراه بقريب من الأرض، واشتغل الناس بالنظر إليه ... ... وقال بعضهم كان في تلك الساعة قران المشتري وزحل على رأي المنجمين، ثم وقعت الضجة في داخل المدينة، فركب الأمراء بالسلاح، وأشيع الخبر بأن لاجين قتل تلك الساعة.
وركب الأمير جمال الدين قتال السبع الموصلي مع جماعة من الأمراء ... إلى ظاهر المدينة، ووقعت الضجة في سوق الخيل، فركب كثير من الناس ولم يبق من الناس أحد في منزله.
قال الراوي: وأخبرني قاضي القضاة حسام الدين الرازي الحنفي عن كيفية قتل السلطان، فإنه كان حاضرا هناك، ونجم الدين بن العسال حاضر، وكانوا يحضرون عند السلطان ينادمونه فقال: كان السلطان جالسا وقدامه أصحاب الخدمة، وقد صلى العشاء الآخرة، وجلس بعض المماليك بين يديه يلعبون بالشطرنج، وهو ينظر إليهم، وقد أحضر له مأكول، فأكل منه، ثم رفع يده منه، وطلب الطشت فغسل يده، وقدم له الجمدار فوطة للمسح، فأخذها ومسح بها يده، وكانت الإشارة بين كرجى والمماليك أصحاب النوبة الذين اتفقوا على قتله أن كرجى إذا تقدم إلى الشمعة تكون إشارة إلى الهجوم على السلطان.
قال: ولم يشهد إلا وكرجى قد تقدم إليه وضربه على كتفه، فرفع يده يلتقى الضربة، فطارت يده وأخذ كرجى النمشة من بين يديه وضربه عند نهضته فقطع مشط رجله، فوقع وهو يقول: الله الله، فأخذته السيوف من كل جانب، ووقع بعض أطرافه إلى الإصطبل.
قال الراوي: حكى لي أنه قام على قدميه وصار يصيح: لا تفعلوا بسلطاننا، هذا ما يحل، ورفع إليه بعض السلحدارية بالسيف، وقال: اقتل بلا فضول، قال: فسكت، ولما تحققوا موته خرجوا على حميه، وفي أيديهم الشموع، ونزلت مماليك الأطباق، واجتمع الأمراء الذين داخل باب القلة، وفتحوا باب القلة وخرجوا، فوجدوا الأمير طقجى جالسا على باب القلة في انتظارهم، هو وخشداشيته، فتلقاهم، وتباشروا بما حصل لهم من الظفر، ثم أرسلوا وطلبوا بقية الأمراء المقيمين بالقلعة، فجاءوا أولا فأولا، وبسطوا من باب القلعة بسطا، وأوقدوا شموعا، ووقع الصوت في نواحي القلعة بأن السلطان قتل.
وكان منكوتمر يتحدث فيما يبطق بالأمراء المجردين، فلم يشعر إلا وقد دخل مملوك وهو يقول: يا خوند، اسمع هذه الضجة في القلعة، فنهض وقام إلى الشباك فرأى باب القلعة قد انفتح، وخرجت الأمراء، والشموع توقد، والضجة قد ارتفعت، فقال: والله فعلوا، وأشار إلى مماليكه أن يغلقوا الأبواب، ويلبسوا، ويتحصنوا.