وقال بيبرس في تاريخه: وفيها أجمع رأي المنصور ومنكوتمر نائبه على روك النواحي والجهات، وسائر المعاملات، وجميع الإقطاعات، وتجديد ترتيبها، فرسم بجميع الدواوين والكتاب والمستوفين لتحرير المقترحات الروكية، وتحقيق ارتفاع الديار المصرية، وتعيين قوانين نواحيها، ومكلفات مساحة ضواحيها، وجملة متحصلاتها، وعقد معاملاتها، وريع أموالها وغلاتها، فجمعوا جميعا، ورتب معهم الأمير بدر الدين ألك الفارسي الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الصوابي الظاهري وطولبوا بسرعة النجاز، فعملوا المقترح بعضا بالحقيقة وبعضا بالمجاز، وجددت الإقطاعات، وجمعت النواحي والجهات وكتبت بها المثالات، وجعلت ثلاث طبقات، وجلس منكوتمر لتفرقتها على العساكر، فكان كل من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه، ولا يمكنه الحيلة على تلافيه، فمن الجند من سعد، ومنهم من شقى، ومنهم من خاب، ومنهم من أنجح بما لقى، فانتقل بعضهم من بلاد عامرة إلى أراضي غامرة، ومن متحصلات وافرة إلى نواح دامرة، وفاز بعض بأكثر مما قصده، ووجد خيرا مما فقده. وكان كما قيل:

يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام

وأفرد للخاص السلطاني بلاد الأعمال الجيزية، ونواحي الصفقة الإطفيحية، وثغرى دمياط والإسكندرية، ونواح معينة من البلاد القبلية والبحرية، وجمعت إقطاعات الأمراء وأجنادهم، وأضيفت عبر الجند إلى عبر بلادهم.

وعين لمنكوتمر من النواحي المعروفة، والإقطاعات الموصوفة، والجهات المتميزة، والبلاد المتعينة والمختارة لنفسه وأصحابه، وكان الحكم في تعيينه لدواوينه، والاختيار لكتابه، إلا أنه لم ينتفع بمباشرة فيه، ولا تملى به، فلله در القائل:

اقنع تعز ولا تطمع تذل ... ولا تكثر تقل ولا تغتر بالأمل

وكان نجاز الروك والفراغ منه في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وستمائة، واستقبل بالإقطاعات سنة ثمان وتسعين الهلالية، ونقلت السنة الخراجية من سنة ست إلى سنة سبع وتسعين وستمائة.

وهذا النقل جرت العادة بإثباته في الدواوين، وإمضائه للمستخدمين من تقادم السنين، وأيام الخلفاء والملوك المتقدمين، وسببه الداعي إليه أن إدراك الغلال، واعتصار الأقصاب، وقبض الخراج، إنما المعول في حسابه على السنة الشمسية، وعقد الضمانات، وأقساط المعاملات على حكم أشهر السنة القمرية، وبينهما تفاوت في عدد السنين والحساب، يعلمه العلماء والكتاب، وله دليل من آي الكتاب، وهو قوله عز وجل: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا "، فقيل أن التسع مقدار التفاوت بين السنين الشمسية والهلالية، فإذا مضى ثلاث وثلاثون سنة انزحفت النسبة إلى السنة الخراجية فيحتاجون إلى تحويلها بالأقلام، ونقلها على جهة الإعلام من غير نقص في الأموال، ولا خلل في الأعمال، وكتب بهذا التحويل سجلات إلى البلاد ليكون عليها العمل والاعتماد.

وقال صاحب النزهة: لما أرادوا روك البلاد، طلبوا تاجا الطويل ليعمل أوراقا بعبرة الأمراء والجند، وقوانين البلاد، واتفق الحال على أن العسكر جميعه أربع عشرة قيراطا، والسلطان أربع قراريط، وقيراطان وقف، والبقية تبقى إلى أن يسجل عليها جند بطالون لتقوية الجيش، والذي استقر للخاص الشريف السلطاني: الجيزية، والاطفيحية، ومنفلوط، والكوم الأحمر، ومرج بني هميم، والإسكندرية، ودمياط، وجرجة شمسطا، ورتب لمنكوتمر ما لم يكن لنائب قبله فكانت عبرة إقطاعه ما ينيف على مائة ألف دينار.

وهذا الروك كان سبب إتلاف الجند والعسكر لتناقص الإقطاع الذي كان لجند الحلقة، وكان عشرة آلاف درهم إلى ثلاثين ألفا ونيفا، فجمع أكثره إلى عشرين وما دونها، فصار كل من كان خبزه يعمل عشرين ألفا نجده عشرة آلاف، ومن كان يعمل عشرة نجده ستة، وتوقفت أحوال الجند، وقلت الأرزاق، فهذا هو الذي ولد حب التضاغن في القلوب، والبغضاء في النفوس، فكان أقوى الأسباب على الفتنة، كما نذكره إن شاء الله.

وفيها تقنطر المنصور لاجين بالميدان، فانكسرت يده، وانقطع أياما ثم عوفي وركب في الحادي عشر من صفر، ومدحه شمس الدين محمد بن. . . بأبيات منها:

فمصر والشام كل الخير عمهما ... وكل قطرٍ علت فيه التباشير

والكون مبتهج والوقت مبتسم ... والخير متصل والدين مجبور

طور بواسطة نورين ميديا © 2015