قال صاحب النزهة: بلغني من دواردار السلطان أنهم لما دخلوا عليه وخلع عليهم وخرجوا من بين يديه، نظر إليهم وإلى حسن أشكالهم وإلى المهابة التي فيهم لحقه ندم كثير وصار في فكر عظيم، وأن دواداره فهم مقصوده. وقال له يا خوند: والله لقد علمت فيهم خيرا وإحسانا. قال: فرفع رأسه إلي وقال: أخطأنا بإخراج هؤلاء جملة، ولو كان بالتدريج لكان أحسن، وما بات أحد منهم تلك الليلة إلا وقد ملأ اصطبله من الخيل والبغال وحملت إليهم الكساوي والأشياء المفتخرة من خشداشيتهم، وبلغ ذلك السلطان فازداد ندما على إخراجهم فطلب مماليكه وعرفهم بذلك، وقال لهم: كيف نعمل ولا يمكن الرجوع من ذلك والندم لا ينفع، فاتفق رأيهم على إخراج بعضهم إلى القلاع، وإخراج الأمراء الذي يخشى من فسادهم، ثم بعد أيام طلب الأمراء واستشارهم في أمرهم، وقال لهم: إن هؤلاء كثيرون، وفيهم أمراء، وما ثمت شيء في هذا الوقت من الإقطاعات، واتفق رأيه معهم على أن يكون الأمير ركن الدين بيبرس نائب السلطنة بالصبيبة، والأمير برلغى أميرا بدمشق، وفلان وفلان في طرابلس وصفد، واستقر أمرهم على ذلك، ولما بلغ هذا الاتفاق على هؤلاء، دخلوا على الأمراء وعلى خشداشيتهم على أن يدخلوا على السلطان في أمرهم وأنهم ما يختارون إلا أن يكونوا في ركاب السلطان، فتكلمت الأمراء بذلك، فأجاب إليهم ورسم بإقامتهم، وأخرج لهم الإمريات والإقطاعات بالتدريج.

ومنها: أنه عزل الصاحب فخر الدين بن الخليلي عن الوزارة، وخلع على الأمير سنقر الأعسر واستقر في الوزارة، وهي وزارته الثانية، وسلم إليه الصاحب فخر الدين وأخذ خطه هو وأتباعه بمائة ألف دينار، كذا ذكره ابن كثير في تاريخه.

وفي نزهة الناظر: كان فخر الدين ابن الخليلي صادر الأمير سنقر الأعسر ونكل به نكالا كثيرا على ما تقدم، ولما وزر الأعسر خشى فخر الدين على نفسه من النكال والإخراق، فسير إلى الأمير سلار ودخل عليه، وعرفه أن الأعسر متى تمكن منه حصل عليه كل سوء، وكان بين فخر الدين وبين سلار صحبة أكيدة من أيام السلطان الملك الصالح، فإنه كان ناظر ديوانه وسلار أمير مجلس، وكان يخدمه ويهاديه، ثم سير إليه خط الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يذكر فيه: من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تميم الداري وذريته هذا ما أعطاه محمد رسول الله لتميم الداري وذريته جيروم والمرطوم وبيت عيون وبيت إبراهيم وما فيهن وسلمت ذلك إليهم ولأعقابهم، فمن أذاهم أذاه الله ومن لعنهم لعنه الله، شهد بذلك عتيق ابن أبي قحافة وعمر بن الخاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وكتبه علي بن أبي طالب، فلما رأى سلار ذلك الخط أخذه ودخل على السلطان وعرفه أن هذا الرجل من أهل بيت كبير وذرية صالحة موصاة بوصية النبي عليه السلام وأخرج له الخط، فلما رآه السلطان نهض إليه وقبله ووضعه على رأسه وقال: السمع والطاعة، قبلت أمر رسول الله عليه السلام، ثم طلب الأعسر وعرفه بذلك، فأخذ الوزير في منع هذا وقال: لم يعقب تميم الداري، وربما يكون هذا مفتعلا، فقال السلطان: ما بقى إلا مكان للتعرض إلى هذا بوجه من الوجوه، وإن كان ما تقول صحيحا، فخرج الوزير من عنده وطلب ابن الخليلي إليه وأكرمه، وقال له على شيء يحمله يرضاه، فاتفق معه على حمل ثمانين ألف درهم وأفرج عنه.

ومنها: أنه رسم بالإفراج عن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، وكان قد منع الخروج والركوب وعن أمر يدخل إليه، وكانوا أخلو له برجا، وإلى الآن يعرف ببرج الخليفة، فلما حضر عنده قام إليه وأكرمه وأنعم عليه بأشياء كثيرة، ورسم أن يخلى له موضع بالكبش ويقيم فيه هو وعائلته، وأجرى له ولعائلته رواتب وجميع ما يحتاجون إليه، ورسم له أن يخطب يوم الجمعة ويؤم بالناس ونزل في موكب عظيم والأمراء والحجاب في خدمته، وكان يوما مشهودا، وجاءت إليه القضاة والمشايخ، ثم خطب يوم الجمعة خطبة بليغة.

ومنها: أنه أمر بتجديد عمائر جامع أحمد بن طولون وترميم ما تشعث من جدرانه.

قال ابن كثير: وندب لعمارته علم الدين سنجر الدواداري وأفرد له عشرين ألف دينار عينا من خاص ماله، فصرفت عليه، ورتب له أملاكا وجدد له أوقافا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015