وفي نزهة الناظر: وكان من الأمراء الكبار الصالحية، قديم الهجرة في الدول، وكان شجاعا مقداما، وله غزوات كثيرة، وإذا عرض غزاة استخدم جماعة من الجند في سبيل الله، وكانت له سعادة ضخمة، وهي من كثرة زراعته، وإن كانت له زراعات في سائر الوجه القبلي والبحري، فإذا وجد مكانا خرسا اشتراه أو استأجره وعمره، وأعطاه الله في الزراعة نصيبا وافرا، واستأجر بلادا كثيرة في الوجه القبلي، وكل مكان يكون له في نشا يعمر فيه جامعا أو مسجدا، وإذا بلغه أمر جامع خراب أو مسجد خراب عمره حتى حصرت الأماكن التي عمرها قريبا من ثلاثمائة مئذنة، واتخذ له أملاكا بمصر، وعمارات على بحر النيل، وعمر بقوص مدرسة للشافعية، ومدرسة على ساحل البحر.
قال المؤرخ: وحكى لي بعض مباشريه في البلاد أن غلاله ومتحصل زراعاته في كل سنة تنيف على مائتى ألف أردب من سائر الحبوب، وعمل في سنة الغلاء خيرا كثيرا، وكان يجمع الصعاليك على الخبز والطعام، ويبر الأيتام وأرباب البيوتات، وكان له طبقة عالية في سماع الحديث، وحكى عنه الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس شيخ الحديث أنه سمع عليه الحديث هو وجماعة من أهل الشام حضروا لطلب الحديث في سنة إحدى وثمانين وستمائة.
وعند غلبة المرض عليه أوصى إلى أولاده أنه إذا توفى يخرجون طلبه وهي على عادتها، فالخيول ملبسه والسناجق منشورة ومماليكه ملبسون على جاري عادتهم عند الخروج إلى الغزاة والعرض بالأطلاب، ولما توفى عرفوا لاجين نائب السلطنة ما أوصى به، فقال لهم: افعلوا ما قال لكم من غير دق النقارات: وصول نائب السلطان وسائر الأمراء من القلعة، وغلقت مصر ذلك اليوم من أول باب مصر إلى دار سكنه بباب القنطرة، وجميع القضاة والفقراء كانوا مشاة في جنازته، وطلبه سائرة معه على الحالة التي يخرج فيها إلى الغزو غير أنه لا تضرب الطبلخاناة والبوقات.
الأمير بدر الدين بيلك المحسني المعروف بأبي شامة.
توفى في هذه السنة، كان متولى الكشف بالوجه القبلي، وكانت له حرمة وصولة ومهابة، وأتلف جماعة كثيرة من المفسدين في الوجه القبلي.
الأمير بدر الدين لقلق المسعودي، توفى فيها بدمشق.
الأمير علم الدين سنجر المسروري، متولى القاهرة.
توفى في هذه السنة، وكان يعرف بعلم الدين الخياط، لقبه به أستاذه الذي اشتراه، وكان ذا شكل حسن، مهابا مصطنعا للناس بالخير في ولايته، عاقلا محتشما، متعقلا عما يبدو من الفواحش، رضى الأخلاق مع لطف وكرم، وكان له تولع بالشراب واجتماع الندماء اللطاف مثل السراج الوراق وشمس الدين الكحال أبي دانيال ونصر الحمامي، وله مكارم عليهم وقبول شفاعات ينالون بها إلى مقاصدهم، واتفق لهم معه مجاري كثيرة من الهزليات المضحكة يطول شرحها، فمن ذلك أنه شرب معهم في بعض الليالي، وكان ليلة الموكب، فقام من السحر وتوضأ، ولبس ثيابه وأخذ في لف شاشه على كلوتاته، فلما فرغ جعل يدير يده على الشاش ويمشيها، فقال له السراج الوراق: يا خوند ابصرها في التحاريس، فضحك علم الدين وأعجبه هذا القول، فقال: والله يا سراج الدين لقد أحسنت في هذا، وأمر له بعطية، وقد علم أن عادة الخياطين غزو الإبرة في عمامته حتى يجد الإبرة فيأخذها.