وكان السبب في لذلك أمورا منها تقديم السلطان الأويراتية لكونهم من جنسه، ومنها عدم التفات السلطان إلى كلام الأمراء الكبار، ومنها تطاول مماليكه على الناس وخصوصا على الأمراء بالإساءة وقلة الأدب، فشرعت الأمراء عند ذلك في التدبير على خلعه، وانتهزوا الفرصة في هذه سفرة، واجتمع الأمير حسام الدين لاجين بالأمير سيف الدين بهادر الحاجب وغيره، واستوثق بعضهم بالبعض باليمين، وكذلك قراسنقر وبقية الأمراء، فصار كل منهم يخلو بأمير أو بخشداشه إلى أن وصل الأمر إلى البيسرى والأمير قفجاق، فاتفقوا كلهم على خلعه من غير قتله، وقصدوا مجرد خلعه عن المسلمين وإزالة ما نالهم من الضرر والفناء والغلاء وقلة الوفاء من النيل والمظالم من مماليكه والتفاته إلى جهة الوافدين من الأويراتية، ووقع اتفاقهم على ذلك عند خروجه من دمشق وقبل دخوله إلى مصر.
وكان خروجه من دمشق في العشر الأول من محرم السنة الآتية، وما وصل إلى منزلة العوجاء إلا وقد اجتمعت قلوب سائر الأمراء على خلعه من الملك وتفريق حاشيته، فحين وصلوا إلى العوجاء ونزلوا، ونزل السلطان، ركبوا، فأول ما ركب نائب السلطان والحاج بهادر الحاجب ونشر كل منهما سنجقه، وكان بقى العلامة بينهم، فعند ذلك ركب الأمير قفجاق وقراسنقر وبيسرى وسائر الأمراء، وأول ما اصطلى بنار الحرب الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة، ولم يكن له همة غير مخيم الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق - لما كان يعلم من قوته وشدته - وكان مشهورا بالفروسية فخشى عاقبة أمره فجعله قصده، ثم لما ساق إلى خيمته سمع الأزرق وقوع الصوت وهيجان الخيل، فنهض عند ذلك من خيمته ينظر ما ذاك، فرأى موكب لاجين قد أقبلت، ورأى الخبل قد أدركته، وأنه ليس له مهلة أن يعتد وما قدر إلا على فرسه، فركب وأخذ شطفته التي يعتادها، فأدركته الخيل، وبقى لا يدري يقصد من، واحتاطوا به، وضربه مملوك يسمى طيبرس ويلقب بوجه الحسب، وكان من جلة المماليك السلطانية الذين فرقهم كتبغا على الأمراء، وكان المذكور وقع للأمير حسام الدين لاجين، ولما ضربه بالسيف حل عاتقه فوقع على الأرض قتيلا وكانت خيمته مجاورة لخيمة بتخاص، فلما رأى الغلبة في مخيم الأزرق أراد أن يركب فلم يمهلوه فقتل على باب مخيمه.
وأما السلطان فإنه قد كان تخلف وجلس مع بعض خاصكيته، فسمع الطبلخاناة والغلبة أمر من يكشف الخبر، فرجع وقد اختبل مما رآه، فنهض السلطان بنفسه فنظر، وإذا الخيل قد أقبلت، وسناجق الأمراء قد نشرت، وكان عنده بعض الخبر من ذلك فإن الأمير بدر الدين أمير شكار كان ممن أنشأه السلطان وكبره في دولته وقربه حتى صار أمير شكاره وصاحب مشورته، وكان من مماليك الخزاندار نائب الدولة الظاهرية، وكان صاحب معرفة وتدبير، وكان قد تنسم بعض الخبر عند خروجه من دمشق، وعرف السلطان بذلك وحذره، فلم يعبأ به السلطان، ولم يعتقد صحة ذلك، فلما رأى ما رأى تحقق الخبر، فقام ولم يلحق غير لبس شاشه وقباء فوقاني، وركب فرسه، وركب معه من مماليكه مقدار عشرين نفسا كانوا قريبين منه، وركب من سلحداريته مملوك له يسمى سيف الدين تكلان، وخرجوا من المخيم وقصدوا نحو دمشق، ولحق أيضا الأمير بدر الدين أمير شكار، وقال له: يا خوند: ما قلت لك، ما سمعت مني، فقال: فات الذي فات، وما لحقوا أن يخرجوا من أطراف الخيم حتى أدركهم لاجين في موكبه، وسبق إلى السلطان حمدان بن صلغاى، وكان ممن أحسن إليه العادل في دولته، فلم يمكنه أمير شكار. وصاح عليه، وقال: ويلك هذا جزاؤه منك، فرجع عنه، وقصد موكب لاجين الإدراك بالسلطان، فمنعهم من ذلك وقال: ما قصدنا غير خلعه وهو خشداشى وبيني وبينه أيمان، ما أخونه في نفسه، غير أنكم إن أردتم فألحقوا بمماليكه، وبقى يسوق على مهله، فرجع إليه مملوك العادل تكلان السلحدار، وأراد أن يهجم على لاجين ويشغله على أستاذه أو يقتله أو يموت، فرآه لاجين وقد عرج نحوه، فتقدم فأدركه وضربه بالسيف، فجرحه في وجهه، وضرب هو أيضا لاجين، فجرح فرسه، ثم ضربه لاجين في ثلاث مواضع وجرح فرسه في أماكن عديدة، فوقع الفرس على الأرض ووقع تكلان، فقصدوا قتله، ومنعهم لاجين، وأمر بأن يحمل فحملوه، وهو مثخن بالجراحات، وقال: مثل هذا المملوك إذا قاتل عن أستاذه ما ينبغي أن يقتل.