ومع ذلك كان ملكا حاد النفس، فيه رهج واستهتار بالأمور واستخفاف بأكابر الأمراء، وكان لا يفتكر ما يفتكره الملوك من العواقب، فمن ذلك ما اتفق له مع الأمير بيسرى، وهو أكبر الأمراء بمصر وأجلهم رأس الميمنة، وذلك أنه جلس يوما في شباك الميدان، وأحضر بين يديه سيفا وثورا كبيرا، والتفت إلى البيسرى وقال: يا أمير بدر الدين: تحبني أو لا؟ فقال يا خوند: وكيف لا أحبك، وقد خليتني من السجن وأحسنت إلي. فقال له: بحياتي عليك، قم واركب على هذا الثور، فنهض من ساعته، ولم يعلم ما أراد بركوبه، فلما صار على ظهر الثور، قال للسباع: أطلق السبع على الثور، فهجم عليه، فكسر الثور، ووقع البيسرى من ظهره، وطارت كلوتاته من رأسه، وانكشفت ثيابه عن جسده، وانقلب السلطان على قفاه من قوة الضحك، وتضاحكت المماليك، وقام البيسرى وهو خجلان ينفض ثيابه، ولم يظهر في وجهه تعبا حتى لا يفهم عنه أنه غضب من ذلك الأمر، فأشيع ذلك بين الأمراء، وبلغ الأمير بدر الدين بكتاش الفخري، فصعب عليه ولم ينزل ذلك اليوم إلى الميدان حتى أرسل السلطان إليه، فلما اجتمع بالبيسرى أخذ يعنفه ويعتب عليه بما رضى لنفسه من ذلك الأمر، وقال له: جعلتنا في آخر عمرنا مساخر والناس تضحك علينا.
فقال له يا أمير بدر الدين: والله كان الموت أهون علي من ذلك، ولكن خشيت الرجوع إلى الحبس بعد عشر سنين التي قاسيت فيها الذل والقيد والخوف والوحدة وأنت معذور، فلو قاسيت ما قاسيت لهان عليك كل شيء من هذا القبيل.
ولما انقضى أمر الميدان طلب السلطان البيسرى وطيب خاطره، وقال يا بدر الدين: أنت ما فعلت هذا إلا محبة لي وامتثالا لأمري، فقدرك عندي كبير، وألبسه تشريفا أطلس كاملا، وأنعم عليه زيادة على إقطاعه منية بني خصيب مائتى ألف درهم وخمسة آلاف إردب.
قال صاحب التاريخ: فلأجل ذلك كان والده الملك المنصور يفضل أخاه الملك الصالح عليه، وسلطنه قبله، لما كان فيه من العقل والسكون والأدب، وكان يرى من الأشرف نقيض ذلك.
وقد حكى القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر أن الملك الصالح لما مات في حياة والده المنصور أشارت الأمراء عليه أن يولى أخاه الخليل ويلقبه الأشرف، فأمر بذلك وكتب تقليده، فدخل به الدوادار إلى السلطان المنصور ليعلم عليه، فدفعه بيده وقال: خله عندك، فبقى أياما على ذلك، ثم استحث الأشرف على التقليد، فاتفقت أنا والأمير الدوادار ودخلنا على السلطان. فقلنا: تقليد ولد مولانا السلطان الذي لقب بالأشرف، فدفعه بيده وقال: خلوه عندكم والله ما يطيب خاطري تولية هذا الصبي، فإنه مجنون لا يفتكر في عاقبة الأمر، ولا يحسن تدبير الملك، وأنا مفتكر كيف يكون أمره بعدي. قال: وبقى الأمر إلى حين توفى السلطان المنصور وتولى الأشرف، ولما جلس على تخت الملك أول ما سألني فقال لي يا فتح الدين: هو ما رضى بي سلطانا، فالرب تعالى رضى بي وجعلني سلطانا.
قال صاحب التاريخ: ومن ذلك ما اتفق له مع الملك المظفر صاحب اليمن، فإنه لما بلغه موت السلطان الملك المنصور قلاون أقام مدة ولم يسير الهدنة التي جرت بها العادة، فكتب الأشرف إليه كتابا فيه تخويف وتهديد وعرض له باشتغاله باللهو والطرب والتخلي مع النساء وغير ذلك مع الأشياء الخارقة لحرمته.
وكان آخر قوله في كتابه لأخرجن اليمن من يمينك، واقتل من آل إليك أووالاك؛ وكتب العلامة بين الأسطر غير شاكرة، وجعلها سطرا مطولا بقلم طومار، وكتب عنوان الكتاب: يصل إلى الخارجي باليمن، وسيره مع بعض الكارم، وعرفه أنه يجهز عقيبه عسكرا إذا لم يحضر إليه بالجواب والهدنة على عادته، ولما أوصله الكارم إلى الملك المظفر، فرأى عنوانه يصل إلى الخارجي باليمن رده إليه وقال: هذا الكتاب ما هو لي وهذا عنوانه: إلى الخارجي باليمن، فإن كنت تعرف الخارجي باليمن أوصله إليه، وإلا رده إلى صاحبه، وكان الملك المظفر رجلا عاقلا، وافر العقل، كثير المحاسن، ولما بلغ إليه الكارم ما قال له الملك الأشرف مشافهة. قال الملك للمظفر: هذا كلام من غلب عليه الجهل والشغاب، وكان من الأمور المقدرة أن توفى الملك المظفر والملك الأشرف كلاهما جميعا.