وفي نزهة الناظر: لما رسم السلطان للوزير شمس الدين أن يذهب إلى الإسكندرية لاستعمال الأقمشة، فركب من فوره وقدم إليها. وكان إذ ذاك الوالي عليها بدر الدين الجالي، فتلقاه بجميع من فيها من التجار والأعوام، وكان يوما مشهودا، فذكروا أنه لم يروا وزيرا مثله قبله دخل كدخوله إلى الإسكندرية فلما استقر بها طلب المباشرين وألزمهم بعمل الحساب، ورسم عليهم، وعلى الوالي، وطلب سائر التجار، وكتب أسماءهم، وجعل على كل واحد منهم شيئا على قدره، وكتب عليهم أوراقا، وجلس في الخمس، وطلب الجميع، وألزمهم بالحمل، وهددهم بالإخراق، وبقيت الإسكندرية في نار تتوقد.
ثم كتب كتابا إلى السلطان وذكر فيه أنه دخل الإسكندرية فلم يجد صانعا يعمل له شيئا، وأن سائر الصناع يشتغلون في أعمال بيدرا، وأن نوابه مستولية على سائر الأشياء، ولم أتمكن الحديث معهم، وحط على بيدرا في كتابه حطا عظيما، فلما وقف السلطان على كتابه غضب غضبا شديدا، وطلب بيدرا من ساعته، فلما دخل عليه شرع يسبه ويهينه، وحمل عليه ليضربه بشيء من عنده، ولم يترك شيئا حتى قال له، غير أنه لم يقل خذوا سيفه، فتقدمت الأمراء الخاصكية وسكنوا غضب السلطان وصاحوا على بيدرا: اخرج اخرج من وجه السلطان، ودفعوه بأكتافه، فخرج وهو أعمى لا يدري كيف يمشي ودموعه تنزل على لحيته.
ولما خرج شرع السلطان يقول: أنا أعرف ما مراد بيدرا، والله لا خليت له مالا ولا زوجا، فطلب كاتب السر ورسم له أن يكتب إلى الوزير بأن يوقع الحوطة على نواب بيدرا، ويضرب الجميع بالمقارع، ويأخذ أموالهم، فأي شيء وجده لبيدرا من الأموال يحتاط عليه ويحضره صحبته، وتكلم بكلام كثير قدام الخاصكية، وتوعده أنه إذا دخل المدينة يقبض عليه.
ثم أن بعض الخاصكية بعثوا في السر إلى بيدرا وأخبروه بجميع ما جرى من السلطان في حقه، وأنهم هم الذين صبروا السلطان في القبض عليه إلى أن يدخل السلطان المدينة، وقالوا له: احترز وخذ لنفسك، فلما وقف عليه بيدرا اجتمع بالأمراء الذين ذكرناهم وتحالفوا على قتله والهجوم عليه، وكان بيدرا قد استجلب خواطر هؤلاء الخاصكية بالإحسان والخدمة.
وكان السلطان أعطى الأمراء دستورا ليتوجه كل منهم إلى إقطاعه، وكذلك المقدمين والمفاردة، ولم يترك معه إلا المماليك الخواص.
وفي نزهة الناظر: وعند خروج بيدرا من عند السلطان حصل عنده قلق، فأبطل الصيد، ورسم للأمير جمال الدين قتال السبع - وكان في ذلك الوقت أمير علم - أن يتقدم بالطلب وصحبته الطواشى مقدم المماليك إلى المدينة، ورسم للأمير كتبغا والحسام أستاذ الدار وغيرهما أن يرحلا، وأنه يرحل عنهم، ثم أنه وجد في نفسه ضيقا وثقلا في بدنه، فطلب المزين وافتصد، وبقى إلى قريب العصر قاعدا وهو متشوش، ثم قصد أن يركب بمفرده ويطعم الطير ليشرح خاطره، فركب في جماعة يسيرة من الخاصكية بغير سيف، ورآه الخاصكية الذين اتفقوا مع بيدرا على قتله، فسيروا إليه وعرفوه أين السلطان، وأن هذا الوقت وقت الفرصة والغنيمة، فقام بيدرا وركب، ومعه قراسنقر ولاجين وغيرهما، ولبسوا تحت الثياب، وساروا وبيدرا بينهم، فلما قربوا من السلطان رآهم فقال: من يكون هؤلاء؟ فسير من يكشف خبرهم، فعند وصوله إليهم عوقوه عن الرجوع إلى السلطان، فسير ثانيا شخصا آخر فعوقوه أيضا، وقرب بيدرا إليه فتحققه السلطان، وظن أنه حضر ليشاوره في أمر، فما كان إلا جذب سيفه وضربه، فصاح السلطان منه، وتلقى ضربته بيمينه التي فيها الزجمة، فرجع عنه بيدرا فلحقه لاجين من خلفه، فضرب على عاتقه، فنزل السيف إلى وسطه، فوقع من فرسه كالطود العظيم، فتناوله تلك الأمراء الخاصكية بالسيوف فقطعوه قطعا قطعا.
ووقع الصياح بقتله، فأول من نعاه وأشهر قتله الأمير ركن الدين بيبرس الخاصكي، فحل شاشه من كلوتاته وصار يصيح واسلطاناه، فركبت الأمراء، واجتمعت الناس، ونهبوا كل شيء هناك، واختبطت الناس، فوقعت الهجة بينهم وكان قريب المغرب فدخل الليل على الناس وتركوا السلطان هناك مطروحا على الأرض لا يؤبه إليه، وبات بيدرا ولاجين وقراسنقر والأمراء الخاصكية يدبرون أمرهم، وتحالفوا أن يكونوا يدا واحدة.