فهرعت إلى الفرجة على ذلك من قبل ركوب السلطان بثلاثة أيام أهل مصر والقاهرة؛ وصنعوا قصورا من الخشب، وبنوا أخصاصا على ساحل مصر وساحل الروضة، فبلغ كرا كل ساحة من الساحات التي بين يدي البيوت إلى مائة درهم ومائتين، ويوم ركوب السلطان كان الناس مثل الجراد المنتشر من المقياس إلى بولاق، فما رأى أحد مثل ذلك اليوم، وأراد الحجاب منع الناس فلم يجدوا لذلك سبيلا، ورسم السلطان أن لا يتعرضوا لأحد، وأرمت جماعة كثيرة نفسها في البحر، ووقف الناس صفوفا صفوفاً، ووقف السلطان والنائب والخاصكية قدام دار النحاس، فدارت الشوانى بين يديه، وقد صنعت في وسطها أبراج وقلاع، وفيها مقاتلون، والنفط، والمكاحل، ونحو ذلك، وأظهر كل مركب صنعة تفتخر بذلك على غيره من المراكب، فلم يزل السلطان يتفرج على ذلك إلى قريب الظهر، ثم رجع إلى القلعة والذي اتفق في ذلك اليوم ما اتفق لأحد من الملوك.
قال صاحب التاريخ: وأخبرني جماعة من أهل المراكب أن أحدا منهم قد استكمل أجرة مركبه سنة كاملة في هذا اليوم، وأن الراكب في مركب كبير قد استكراه في ذلك اليوم بسبعمائة درهم وأكثر، وأبيع سبعة أرطال خبز بدرهم بعد أن كان اثنى عشر رطلا بدرهم، وكذلك اللحم وغيره زاد سعره من كثرة الزحام والخلق.
قال الراوي: وأنشدني الشيخ فتح الدين، شيخ الحديث بيتين لابن عنين في لعب الشوانى في أيام الأشرف وهما:
يا أيها الملك المسرور أمله ... هذي شوانيك تجرى يوم سراء
كأنها شبه أطيار بها ظمأ ... طارت إلى الجو وانتثرت على الماء
وفيها رسم للأمير عز الدين أيبك الخزندار بنيابة طرابلس، عوضا عن الأمير سيف الدين طغريل اليوغانى ورسم بحضوره إلى مصر.
وتولى الأمير سيف الدين طوغان نيابة السلطنة بقلعة الروم، عوضا عن الأمير عز الدين الموصلي.
وفيها أرسل السلطان الأمير علم الدين الدواداري إلى صاحب القسطنطينية، وإلى أولاد بركة، ومعه تحف كثيرة جدا، فلم يتفق خروجه من قبل السلطان، فعاد إلى دمشق.
وفيها وصل مملوك نائب حلب يخبر بحضور رسل كيخاتو ملك المغول، وهم جماعة كثيرة، ويستأذن لدخولهم، ورسم له بذلك، ورتبوا الإقامات عندما وصلوا إلى الصالحية، وخرج المهمندار إلى لقائهم، وأمر السلطان الأمراء والجند - يوم عبورهم في الخدمة - أن يزينوا أنفسهم، فيلبسوا الكلوتات الزركش والمطرز وغيرها، واستقبالهم من باب القلعة، وقد ترتبوا من خارج الباب إلى الإيوان صفين أمراء وأجناد ومقدمون، فلما رأوهم اندهشوا من مهابتهم وترتيبهم، فأوصلوا الكتب، وتكلموا مشافهة أيضا، على أن القان يقصد أن يدخل إلى مدينة حلب ويقيم فيها، ويجعل مقامه فيها، فإنها مما فتحه أبوه هلاون بسيفه، وهي في ملكه، وإن لم يسمح بذلك فهو يقصد العبور إلى الشام.
فأسرع السلطان بالجواب، وهو يبتسم، وقال: الحمد لله الذي وافق أخي القان ما كان في نفسي فكنت قد تحدثت مع أمراء دولتي أن أسير طالبا من أخي بغداد، وإن لم يسمح لي بها ركبت ودخلت بعسكرى وأخربت بلاده، وقتلت رجاله، وفتحتها قهرا، وجعلت فيها نائبا من جهتي، فإن بغداد هي دار السلام، وأرجو أن أعيدها للإسلام كما كانت، ولكن إذا وصلتم إليه عرفوه من يسبق إلى بلاد صاحبه ويدخل فيها.
فلما خرج الرسل طلب الوزير ورسم أن يكتب إلى سائر البلاد والعواصم بتجهيز الإقامات، وكذلك للعساكر أن يجهزوا لدخول الفرات وأخذ بغداد، ورسم إلى سائر الأمراء لا يدخل أحد منهم الميدان - يوم الميدان - إلا وهو لابس عدة الحرب هو وفرسه، ورسم للمهمندار أن يأخذ الرسل معه إلى الميدان ليروا الموكب.
وانتظم يوم الميدان بما حيرهم هناك، وكان يوما عظيما، واجتمعت فيه خلق لا يحصى عددهم، وخلت الأسواق بأجمعها، وانتشرت الخلائق مثل الجراد، فرأى الرسل نهارا عظيما إلى أن أذن الظهر، وركب السلطان، وقد لبس قرقلا خفيفا، وبيده شطفة، وناهيك من ملبوس ملك في مثل ذلك اليوم، وتواترت الأمراء بعده بالدخول أولا فأولا، وكل أمير يدخل وقد لبس أفخر لباس الحرب، وبيده شطفة برنكه، ورسم لهم السلطان أن يتصارعوا كل أمير مع أمير على قدر مراتبهم، وشرعوا في كر وفر، وصدور وورود، وكل منهم قد أظهر فروسيته في ذلك اليوم، وكان يوما مشهودا.