ثم طلب السلطان الوزير وقال له: اعط للبليبل ألف دينار، وكان البليبل يغني في المجلس وعلى السماط، وكان له صوت عظيم إلى الغاية، وكان الأشرف يحب سماعه في حياة والده، فقال الوزير: يا خوند وكم من ألف خرج في هذا المهم؟ فالتفت السلطان إلى البليبل فقال: ويحك غنى إذا أسعدك الزمان فلا تبالي، فصار يلعلع بصوته والسلطان يعجبه قوله، فقال: يا صاحب املأ طشت بالذهب فقال: السمع والطاعة، ثم جاء إلى الوزير أستاذ الدار لطقجى وديوانه، وأوقفوه على ما كتبه السلطان، فلما رأى علامة السلطان نهض من المجلس وقبل الأرض ووضعه على رأسه وبهت له ساعة، وقال: مرسوم السلطان على الرأس والعين، ولكن أمهلوني قليلا، ثم نهض من المجلس ودخل على الأمير بيدرا نائب السلطنة، ورمى نفسه عليه، وقال يا خوند: ارحمني وادركني وإلا أموت، من أين أجد مائة ألف دينار بعد عمل هذا المهم العظيم، فلما وقف على المرسوم أعذره ونهض معه، فدخل إلى السلطان، فقال له: يا خوند، من أين يجد الوزير بعد عمل هذا المهم مائة ألف دينار، وشرع يسأل التنقيص من ذلك، والوزير أيضا يسأله، فنظر إليهما السلطان نظر المغضب، فقال: مثلي ينعم على مملوكه بشيء اليوم وينقصه غدا. فقالوا: يا خوند: نحن ندخل على طقجى ليحط من هذا القدر بشيء. فقال: هذا له وليس لي، فنهضوا من عنده، فصادفوا طقجى داخلا إلى الخدمة، فأخذ بيدرا بيده فأجلسه إلى جانبه، وطلب بكتمر السلحدار وبعض الخاصكية، وخاطبوه أن تكون المائة ألف دينار مائة ألف درهم، فقال للوزير: أنت في عقلك؟ تقول إني آخذ عوض مائة ألف دينار مائة ألف درهم، فلما رأى بيدرا تصميمه على الطلب قام ووقف وقال: يا أمير أنا أروح اليوم إلى بيتك وأطلب ضيافتي، فنهض طقجى وقال: يا خوند مثل ما وهبني أستاذي أنا قد وهبتك الجميع، وبعد ذلك حمل له الوزير مائة ألف درهم.
وقال صاحب النزهة: وجدت دفترا بخط شخص من مماليك الحاج طيبرس بعد وفاته؛ وكان والدي وصيه، فنظرت فيه، وقد كتب كل ما نفق في هذا المهم، فوجدت جميع ما غرم من أوله إلى آخره: ثلاثة آلاف رأس غنم، وستمائة رأس بقر، وخمسمائة أكديش وألفين وثمانمائة قنطار سكر للمشروب، ومائة وستين قنطارا لعمل الحلاوات، وذكر أنه عجز ما نفق من الذهب، وقدره على سبيل التقريب مائتي ألف دينار.
قال: ثم بعد قتل الأشرف لما تولى الأميران سلار وبيبرس وباشر علم الدين أبو شاكر ناظر الحوشخاناة سألته عما نفق من بيت المال في المهم المذكور، فقال: وجدت أوراق المصروف نحو الثلاثمائة ألف دينار، سوى ما خص الأقبية والطرز والسروج وقماش العساكر، ولم يعهد أن أحدا من ملوك الترك صنع مهما مثله، ولا نفق فيه مثله.
وفيها: كانت واقعة القاضي تقي الدين بن بنت الأعز مع الوزير، وقد ذكرنا طرفا منها فيما مضى.
وذكر في نزهة الناظر ما جرى عليه مع الوزير في هذه السنة، وقال: ولم يذكر أحد أفحش من هذه الواقعة ولا أشنع منها في حق هذا الرجل، وكان السبب في ذلك أن الصاحب شمس الدين بن سلعوس لما قدم مصر في الدولة المنصورية، كما ذكرنا، وباشر في ديوان ولده الأشرف كان رفيقه في المباشرة رجل يقال له نجم الدين بن عطايا، كان شاهدا بديوان الأشرف، فحصل بينه وبين ابن سلعوس إلمام عظيم ومودة عظيمة، واتفق أن ابن سلعوس خرج من مصر وأقام بدمشق، فكان هذا الرجل يكتب إليه كل ما يتفق في مصر من الوقائع ويعلمه بذلك، وكان يهادي بعضهما إلى بعض.