ولما حضروا في المجلس الثاني إلى الخدمة على العادة، أراد السلطان أن يعمل به شيئا ينتكى به، وكان قد عمل على النهر خشبا يمشون عليه مثل الجسر، فكل من كان يحضر من ذلك الجانب يمشى عليه، وأمر السلطان لبعض الجمدارية أن يقصر الخشب قليلا ويدوس عليه برجله، فإذا رأى مهنى وقد أراد الجواز عليه وتوسط، يرفع رجله حتى يقع في النهر، ففعل مثل ما قال السلطان، وجاء مهنى ومشى عليه إلى أن توسط، فرفع ذلك الجمدار رجله فخرج الخشب عن موضعه، فوقع مهنى في وسط النهر إلى حلقه وغطس غطسة، فأدركوه وأخرجوه وهو في حالة عجيبة، فضحك السلطان حتى نهض من كرسيه ويقول: ويلكم، شيلوا أمير العرب، وهو يضحك. فغضب مهنى من ذلك غضبا شديدا وقال: والله ما سوى هذا إلا خبيث بن خبيث، فرد عليه برغشة وقال له يا أمير: لا تقل هذا القول، حاشى أن يكون في الملوك وأولاد الملوك خبيث. فتغير السلطان من ذلك تغيرا كثيرا. وقال مهنى: يا أمير ما عنيت الملوك ولا أولاد الملوك، وإنما عنيت الذي سواها من المماليك. فالتفت السلطان إلى الأمراء الحاضرين وقال: سمعتم مهنى وهو يقول لي: خبيث بن خبيث، فنهض الجميع، ومهنى معهم، وقبلوا الأرض، أنه ما أراد بهذا السلطان، وبقى مهنى يقبل الأرض ويحلف أنه ما نوى هذا، والأمراء يعتذرون عنه.

وقال الأمير حسام الدين الأستاذدار: يا خوند لا تؤاخذ العرب فإنهم لا يعرفون هذه الأمور، ويتكلمون بكلام ولا يقصدون بذلك شيئا، فقاموا بعد ذلك وخرجوا، والسلطان يقول: يا مهنى، وهو خارج من عنده مع الأمراء، أوريك إن كنت خبيث بن خبيث أو خليل بن قلاون.

ثم أن مهنى صبر إلى أن دخل الليل، فجاء إلى حسام الدين الأستاذدار وعرفه ما هو فيه من القلق بسبب ما وقع منه، وكان يركن إليه وبينهما مودة، فاستشاره أنه يقيم أو يرحل إلى أهله، فأشار عليه أن يرحل ولا يعود يقابل السلطان، لما كلن يعلم ما في باطنه من أمره، واتفق معه على الرحيل، وترك عنده من يثق به أنه يسير معه، ويقف على ما يقع من السلطان في أمره من الخير والشر، ثم يرسله إليه ويعرفه بالإشارة، ثم رحل باكر النهار.

وعلم بذلك السلطان، فسكت عنه إلى أن اتفق ما اتفق من رواح السلطان إلى الشام، ثم إلى حمص وخروجه إلى الصيد كما ذكرنا، فلما فرغ سأل عن الطريق التي تأتى على أبيات مهنى في البرية حتى يجعل طريقه عليها، وأحس الأمير حسام الدين أن في نفس السلطان القبض عليه، فطلب ذلك الرجل الذي تركه مهنى عنده، فقال له: اذهب إلى مهنى وسلم عليه من عندي واعطه هذه السلة، ولم يقل له شيئا غير ذلك، فسبق القاصد إلى مهنى وعرفه أن السلطان جعل طريقه عليه، فقال: وأش قال لك الأمير حسام الدين فقال: لم يقل لي شيئا غير أنه أعطاني هذه السلة التي فيها الحشكنابك، ففتح مهنى السلة فوجد فيها بين الحشكنابك جملا مصنوعا من شمع وعليه قتب وخرج محمل، فعلم أنه أشار برحيله. فطلب إخوته وعرفهم الأمر، واتفق رأيهم على الرحيل.

وهم في ذلك، فإذا صاحب حماة قد تقدم ليلاقى السلطان، فركب إليه هو وإخوته وعرفوه بأمورهم، واستشاروه فيما يفعل، فقال صاحب حماة: يا أمير إن سمعت منى فانظر في نفسك، فأي شيء قويت نفسك عليه فافعل واتكل على الله. فقال: والله قويت نفسي على لقياه، وإن كان قدر على أمر صبرت له، ثم قال له صاحب حماة: إن كان لا بد من الملاقاة فاملأ عينه بالضيافة والتقدمة وفارقه على ذلك.

ثم ركب هو وأخواه فضل ومحمد وتلقوا السلطان، وترجلوا عن بعد، وقبلوا الأرض، وكان في نفس السلطان أن مهنى ما يقابله، فأقبل السلطان عليهم وسألوه في العزيمة، فأجاب السلطان إلى سؤالهم، وقصده القبض عليهم، وعند وصوله أبياتهم قد وجد طعامهم قد جهز، وكان قد احتفل له في ذلك اليوم احتفالا عظيما، فذبح في ذلك اليوم ثلاثمائة رأس غنم، وثلاثين إكديشا، وخمسين فصيلا، وأحضر مائتي منسف حلوى، وعشرة أحواض سكر، وسويق، وأحضر التين والزيت والفستق أكواما مكومة، فشرعت الأمراء في الأكل، والسلطان ينظر إلى مهنى وإخوته ويرى القبض عليهم، فتنظر مهنى إليه وعرف ما عنده من ذلك، فتقدم وباس الأرض، وقال يا خوند نحن اليوم من جملة رعيتك وقد شرفتنا وقبلت عزيمتنا، ونريد منك أن تتم خيرك وتأكل من طعامنا، فإن كان في نفس السلطان شيء يفعله فها نحن بين يديه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015