وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم وصل السلطان إلى حلب في اليوم الثاني والعشرين من جمادى الأولى، وأقام فيها أياما، ثم توجه منها إلى قلعة الروم، وخرج من حلب في اليوم الرابع من جمادى الآخرة ووصل إلى قلعة الروم ونازلها في العشر الأول من جمادى الآخرة، ونصب عليها المناجيق، وهي ثلاثة وعشرون منجنيقا، أحديها عند الدهليز الشريف، والأخرى فوق جبل يسامت القلعة المذكورة وعنده الملك المظفر صاحب حماة، وكان كلما رمى الحجر فأصاب ضربت كوساته وفعرت بوقاته، والأخرى عند علم الدين سنجر الشجاعي نائب دمشق، وكان ترتيب الرمى بهذه المناجيق أن كل أمير من الأمراء يرمى يوما وليلة، والأمير علم الدين الشجاعي أقام برجا من خشب تعلوه قبة ولبده كله وحصنه من يمينه وشماله، وعمل في داخلهم الرجالة فصاروا يقاتلون من داخله، وأقام العسكر عليها عشرين يوما، ولم ينل السلطان منها طائلا، وكان لا يصل إليها غير منجنيق واحد، فكان حجره يصل إلى السور، فإذا دق فيه يفتت حجره، وأجمع الأمراء على أن يزحفوا ويوصلوا النقابين إلى السور، فركب السلطان بنفسه والأمراء، وتكفل نائب الشام ونائب حلب بالنقابين، وكانوا نحوا من ثمانين حجارا بالمعاول، ودخلوا في الزحافات، وزحف العسكر جميعه، وكان يوما عظيما، وكان في القلعة رجال لا يعرفون شيء غير القتال، فقاتلوا في ذلك اليوم قتالا عظيما، ونال المسلمين منهم شيء عظيم.

قال صاحب نزهة الناظر: بلغني عن الشجاعي أنه قتل له في ذلك اليوم ثلاث رءوس من الخيل، وجرحت جماعة كثيرة من مماليكه، وكذلك نائب حلب، وتفرقت الأمراء والأكابر حول القلعة، ورموا بسهام كثيرة حتى أشغلوهم عن جهة النقابين، وما برحوا إلى أن أوصلوهم إلى الأسوار وملكوها، وشرعت النقابون بالمعاول فيها فلم تؤثر المعاول في الحجر شيئا، ووجد المسلمون من ذلك مشقة كثيرة، ولما ضايق المسلمون عليهم اجتهدوا اجتهادا عظيما.

وكانوا قد كتبوا إلى صاحب سيس أن يسير إليهم نجدة، فوصل في ذلك الوقت جماعة من عرب آل مهني، وأخبروا السلطان أنهم رأوا نحوا من تومان من المغول وقد عدوا الفرات، وهم قاصدون العسكر، فسمع أهل القلعة بذلك، فضربوا ناقوسهم، وأظهروا الفرح.

فعند ذلك رجع السلطان مع الأمراء إلى الدهليز، وضربوا مشورة في أمرهم، فأسر السلطان لبيدرا نائبه أن يقول: نرحل ونرجع إليها في العام القابل. فقال بيدرا ذلك للأمراء، وقال: قد ضجر السلطان من أمر هذه القلعة، ومن كثرة الأمطار والثلوج والبرد العظيم، وأيضا بلغه أمر المغول، فاختار أن يرجع، فسكت الأمراء، ثم قال السلطان: ما تتكلمون وما تقولون في كلام الأمير بيدرا؟ فقال له الأمير ركن الدين الجالق: يا خوند ما جرت عادة ولا سمعنا أن سلطانا ينزل بعسكره على بلد ويحاصره أياما ويرجع عنه إلا بسبب يقتضى ذلك. وقال الأمير لاجين: والله يا خوند لو هلكنا بأجمعنا ما نرجع إلا بفتح هذه القلعة سيما وقد قتل من المسلمين جماعة، ولم يعجبه كلامه، ثم التفت بيدرا إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشرف وقال له: ما رأيك نقيم أو نرحل؟ فالتفت إليه التفات المغضب وقال: يا أمير، الحرب لعب الصغار، من قتل منا ومن خرج حتى نرحل من القلعة، ثم قال له السلطان، وقد حصل في نفسه من كلامه حنق عظيم: كيف يكون العمل مع هذا العدو الذي قد تعدى الفرات؟ فقال: إن رسم السلطان لي أركب وصحبتي بعض الأمراء وألاقي هذا العدو، فنرجو من الله النصر عليه أو الموت في سبيل الله، فالسلطان يكون مقيما بالعسكر والحصار يكون مستمرا ولا يشمت بنا العدو، فإذا سمعت الناس أن سلطان مصر وعساكرها نزلوا على قلعة، ثم رحلوا عنها ماذا يقولون؟ والله نموت جميعا خير من هذه السمعة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015