وفي هذه السنة رسم السلطان للعساكر بالتجهيز، وعزم على التبريز، وخرج من قلعته في المحرم من هذه السنة، وسار إلى الشام على عزم غزو طرابلس وأخذها وذلك أن أهلها نقضوا قواعد الصلح، وكدروا موارد الهدنة، بما ارتكبوا من الفساد، وسوء الاعتماد، والتطرق إلى الطرقات، والتعرض إلى المسلمين في معظم الأوقات، فعزم على حصارها، وصممّ على دمارها، وكتب إلى النواب بالممالك الشامية والحصون الساحلية بتجهيز الجيوش إليها، وإنقاذ المجانيق وآلات الحصار والنزول عليها.
توجه السلطان إليها، ونزل عليها، وجاءت الأمداد من جميع البلاد، وجدوا في الحصار.
وقال ابن كثير: نزل السلطان على طرابلس وصحبته خلق كثير من المتطوعة، منهم القاضى الحنابلة نجم الدين بن الشيخ، وخلق من المقادسة وغبرهم، فنازلها يوم الجمعة مستهل ربيع الأول وحاصرها بالمجانيق حصارا شديدا، وضايقها مضايقة عظيمة ونصب عليها تسعة عشر منجنيقا، فلما كان يوم الثلاثاء رابع جمادى الآخرة فتحت طرابلس في الساعة الرابعة من النهار عنوة، وشمل القتل والأسر جميع من فيها، وغرق كثير منهم في الميناء، ونهبت الأموال، وسببت النساء والأطفال، وأخذت الذخائر والحواصل، وقد كانت طرابلس في أيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى هذا التاريخ، وقد كان الملك صنجيل حاصرها سبع سنين حتى ظفر بها كما ذكرنا، وكانت قبل ذلك بأيدي المسلمين من زمن معاوية رضى الله عنه، فإنه فتحها في زمن معاوية سيفان بن نجيب فأمسكها معاوية اليهود، ثم لما كان عبد الملك بن مروان جدّد عمارتها وحصنها وسكنها المسلمون، حينئذ وصارت مطمئنة، وبها ثمار الشام ومصر، فإنه يجتمع فيها الجوز والموز والبلح والقصب، وقد كانت قبل ذلك كله ثلاث مدن متقاربة، ثم صارت بلدا واحدا، ثم حولت من موضعها، فإن السلطان أمر بهدم هذه البلدة بما فيها من العمائر والآدر والأسوار وأن تبنى على ميل منها بلدة غيرها أمكن منها وأحسن ةففعل ذلك، فهى هذه التى هي الآن، جعلها الله دار أمان.
وفي تاريخ النويرى: مدة لبث الفرنج عليها من يوم استولوا عليها نحو مائة سنة وخمس وثمانون سنة وشهورا، وكان فتحها عنوة يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، وهرب أهلها إلى الميناء، فنجا أولهم في المراكب، وقتل غالب رجالها، وسببت ذراريهم، وغنم منها المسلمون غنيمة عظيمةً، وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة، وفيها كنيسة تسمى كنيسة سنطماس بينها وبين طرابلس الميناء، فلما أخذ طرابلس هرب إلى الجزيرة المذكوره عالم عظيم من الإفرنج رجالٌ ونساء، فاقتحم العسكر الإسلامى البحر وعبرّوا خيولهم سباحةً إلى الجزيرة المذكورة، وقتلوا جميع من بها من الرجال، وغنموا ما بها من النساء والصغار والأموال، وصار الناس لا يستطيعون الصعود إليها من نتن جيف القتلى ثم عاد السلطان إلى دمشق، وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، ودخل السلطان دمشق يوم النصف من جمادى الآخرة.
ثم سافر السلطان في ثاني شعبان بجيشه إلى الديار المصريّة، فدخلها في آخر شعبان من هذه السنة.
وفي تاريخ بيبرس: وانهزمت طائفة من الفرنج وأهل طرابلس إلى جزيرة قريبة من الميناء لم يكن يتوصل إليها إلا بالقوارب وصغار المراكب، فالتجأوا إليها وظنوا أنهم يحتمون بها، ونقلوا معهم ما عز عليهم من قماشهم وأثاثهم، فاقتضعت سعادة السلطان وشقوقهم أن، انطرد البحر عنهم، وظهرت العساكر المخائص إليهم، فبادروا إليها ما بين راجل وفارس، وأوقفوا بمن كان فيها من شيخ وشابٍ، وبكر وعانسٍ، وركب أقوام منهم مركبا في البحر لينجوا بأنفسهم، فطردتهم الريح إلى الساحل، وتعذر عليهم الخروج في العاجل، وكانت هناك الخيول الإسلامية مع الدشارية، فخرج إليهم الغلمان والشاكردية والوشافية وأمير آخورية ووقعوا فيهم ونهبوا وأسروا من وجدوا منهم، فكان الخذلان لهم في البر والبحر، ولم يستشهد في هذه الغزاة إلا الأمير عز الدين مغان أمير شكار، والأمير ركن الدين منكورس الفارقانى، ثم أمر السلطان بتخريب المدينة بكمالها، وبنيت بالقرب منها مدينة أخرى وسميت طرابلس المستجدة، وسكنها كثير من المسلمين، واستقر بها نائب السلطنة، وطائفة من العسكر، ولما فرغ السلطان من أمرها رحل عائدا إلى الديار المصريّة.